المعارضة وتحدّي تغيير المشهد السياسي في مصر
في وصفه نظام حكم الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، يقول الكاتب الصحافي المصري أنور الهواري في كتابه "الديكتاتورية الجديدة .. نفق مغلق وأفق مسدود" (دار روافد، القاهرة، 2023): "تغفل الجمهورية الجديدة منذ 2014 أن عداءها للديمقراطية يحمل لها بذرة الدمار الذاتي. الديكتاتورية رغم قوتها تظلّ بيتا من زجاج، أهم خصائصه قبول الكسر، وإذا انكسر فقد انكسر". أصبحت مصر جزرا منعزلة، تعيش فيها السلطة والنخبة المرتبطة بها حالة إنكار لما تشهده البلاد من تدهور اقتصادي واجتماعي وتصحّر سياسي، وتراجع في الأدوار الإقليمية والدولية، طالما استطاعت هذه النخبة تأمين استقرارها ومصالحها. تقيم السلطة في مصر حواجز حديدية بين القطاع الأوسع من المصريين والتفكير والتأمل في مستقبل تطوّر الأوضاع في بلدهم، في وقتٍ يكاد يكون الإعلام الدولي، والمؤسّسات الاقتصادية الدولية، الأكثر انشغالاً بما يعنيه عجز مصر عن سداد ديونها، وأن تكون البلاد على شفا الإفلاس. يتّجه السيناريو الأول لمستقبل السلطة الحالية في مصر في قدرتها على الاستمرار في الحكم وتأجيل أزماتها بفعل صور من الدعم الخارجي قصير المدى، عبر استمرار تأمين قدر من التدفقات المالية الأجنبية مقابل تأقلم السلطة المحدود مع الشروط الدولية لدعم الاقتصاد، وضمان دعم القوات المسلحة، والتي حسب قول خبير الاقتصاد السياسي، يزيد صايغ، أصبحت خلال عشر سنوات "رأس الحربة في إدارة الاستثمار وإيصال المشروعات"، ودعم شبكات المصالح العريضة المنتفعة من هذه السلطة اقتصادياً وسياسياً، بالتزامن مع استمرار القمع الأمني، وتحجيم أي بديلٍ سياسيٍّ محتمل. وقد تشهد مصر في ظل السيناريو الثاني تغييرا سياسيا مفاجئا على المدى القريب، بفعل ظروف عرضية طارئة، نتيجة الإفلاس المالي الذي يتوقّعه كثيرون، وما قد يصاحبه من انفجار شعبي واسع ومفاجئ وغير منظّم يصبح معه تغيير رأس السلطة أمرا حتميا لتدارك الأزمة واستمرار نظام الحكم تحت هيمنة المؤسّسة العسكرية، لكن بإخراج جديد.
في الحالتين، تفتقد البلاد في ظروفها الراهنة قوى سياسية واجتماعية يمكن أن تقود تغييرا جذريا في بنية السلطة أو نمط الاقتصاد السائد ذي الطبيعة الاحتكارية المهيمن عليه من الجيش، ولا تمتلك السلطة الحاكمة، بتحالفاتها الداخلية، القدرة أو الإرادة السياسية لقيادة إصلاح سياسي جادّ أو التوسيع من هامش الحرّيات العامة، أو أن يترك الرئيس حكم مصر من خلال الرهان على صندوق الانتخابات. يختلف سياق انتخابات الرئاسة المقبلة، المتوقع عقدها نهاية هذا العام (2023)، عن الانتخابات السابقة التي أجريت عامي 2014 و2018 في ظل المكاشفة الصريحة لفشل السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي بشّر بها وروّجها الرئيس عبد الفتاح السيسي. ولكن مع التسليم بالتحدّي والترهل الذي تواجهه السلطة، ما زالت السلطة تكتسب مقوّمات استمرارها من الفراغ السياسي الداخلي وعدم الاكتراث بمستقبل الإصلاح السياسي في مصر على المستوى الخارجي.
تتخذ القوى الإقليمية العربية الشريكة لمصر منظوراً نفعياً ضيّقاً في تقييم مستوى رضاهم عن الأوضاع السياسية والاقتصادية داخل مصر
في الوقت ذاته، تفتقد المعارضة السياسية بتشكيلاتها الراهنة داخل مصر أو خارجها الحيوية التنظيمية أو الجاذبية الجماهيرية، أو التمتّع بثقة شركاء مصر الدوليين والإقليميين بأن هناك بديلا مطروحا يمكن الوثوق به والاعتماد عليه غير المؤسّسة العسكرية. لقد تلقى الفصيل الجاد من هذه المعارضة، بأطيافها الليبرالية واليسارية والإسلامية، ولا يزال، ضربات أمنية متتالية، وحملات تشويه منهجية أو تشريدا خارج البلاد، وسط انحراف منهجي لمؤسّسات حكم القانون في مصر. ويستمر هذا القمع في ظل عدم اكتراث أو بتواطؤ مباشر من الحكومات الغربية ذات التأثير على السياسة الداخلية المصرية.
من ناحية أخرى، تتخذ القوى الإقليمية العربية الشريكة لمصر منظوراً نفعياً ضيّقاً في تقييم مستوى رضاهم عن الأوضاع السياسية والاقتصادية داخل مصر على نحوٍ لا يتوافق بالضرورة مع مصالح الشعب المصري. وهناك فصيلٌ معتبر من المعارضة السياسية لم يكن أمامه سوى الرهان على خيارات السلطة الحاكمة، في ظل التهديد والابتزاز من هذه السلطة، عبر دعم مبادرات السلطة، مثل ما عرف بالحوار الوطني مقابل الحصول على أي امتيازاتٍ خاصة لأعضائها أو تأمين خروج بعض المعتقلين وسجناء الرأي المحسوبين عليهم. اعتقد بعضهم من رموز المعارضة المصرية التي شاركت بحماس في الحوار الوطني أنهم يعملون على جعل النظام الحاكم الراهن أقلّ سلطوية، لكن تقديراتهم خابت حيث تثبت الأحداث أن المستفيد الأكبر من مسرحية الحوار الوطني كان الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي يسعى إلى تأمين مروره في انتخابات رئاسية غير نزيهة وغير تنافسية، من دون تقديم أي تنازل حقيقي لفتح المجال العام. من ناحية أخرى، استطاعت السلطة في السنوات السابقة تصنيع نخبة سياسية جديدة مشوّهة، لا تعدو كونها مجرّد أداة تعمل محلياً ودولياً لدعم شرعية السلطة الحاكمة وتلميعها، وتأتمر بتعليمات الأجهزة الأمنية.
استطاعت السلطة تصنيع نخبة سياسية مشوّهة، لا تعدو كونها مجرّد أداة تعمل محلياً ودولياً لدعم شرعية السلطة الحاكمة وتلميع صورتها
من المستبعد، في ظل الإقصاء والإنهاك والتشوّه التي أصابت النخب السياسية خلال التحوّلات السياسية التي شهدتها مصر منذ ثورة يناير 2011، أن تشكل المعارضة في المدى المنظور قاطرة سياسية واجتماعية للتغير السياسي في مصر من خارج مؤسّسات الحكم، وبعيداً عن سيطرة القوات المسلحة. لكن الرهان يبقى على ضرورة جاهزية مكوّنات من هذه المعارضة والمجتمع المدني المستقل داخل مصر وخارجها، لكي تكون طرفاً مؤثّراً في مسار الأحداث أو المفاوضات مع ما تُعرف بمؤسّسات الدولة العميقة، خصوصا إذا ما حدثت تحوّلات سياسية عرضية مفاجئة، أجبرت السلطة على إحداث تغيير. ستكون مهمّة التعامل مع مخلفات النظام الحاكم الحالي من أعقد ما يكون، وهو ما يتطلب الدفع برؤى عملية وقابلة للتطبيق للتخفيف من الآثار التخريبية لسياسات هذه السلطة من النواحي الاقتصادية والاجتماعية والمؤسّسية، وعلى مستوى علاج تداعيات الأزمات المروعة والمتواصلة لماكينة انتهاكات حقوق الإنسان.