المسكوت عنه بين السعودية وإيران
رغم الضجة الكبيرة التي أثارها توصّل السعودية وإيران قبل خمسة أشهر إلى تفاهم بشأن تحسين العلاقات بينهما، يبدو الحجم الحقيقي لهذا التطوّر الإيجابي أقل كثيراً مما حظي به من احتفاء. بل إنّ شقاً معتبراً من الضجّة نبع من ارتباط التفاهم المستجد بالدور الذي لعبته الصين في إخراج التفاهم إلى النور، خصوصاً أن الحوارات بين الجانبين كانت قائمة قبل ذلك أكثر من عامين، بدأت باستضافة ورعاية عراقيتين، قبل أن تضطلع عُمان بدور الوسيط. ثم كانت لبكين اللمسة الأخيرة التي توّجت تلك الجهود المتواصلة، فحظيت باللقطة السعيدة الجديرة بالانتباه.
وبعد أن تفاءل كثيرون بذلك الحدث غير المسبوق، واعتبروا وساطة الصين كفيلة بتحويل التفاهم المبدئي إلى خطواتٍ عملية وتحسّن حقيقي في العلاقات بين الرياض وطهران، مرّت خمسة أشهر تقريباً من دون تقدّم فعلي نحو ذلك الهدف المأمول.
ورغم تجدّد تلك التوقعات مطلع هذا الأسبوع، إثر زيارة وزير الخارجية الإيرانية أمير عبد اللهيان المملكة ولقائه وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان، إلا أن المتابع للعلاقات بين الجارين الندّين بخصائصها وتطوراتها لا يمكنه الانسياق وراء هذا التفاؤل المبالغ فيه، خصوصاً أن المعلن عن الزيارة لم يتضمّن شيئاً ملموساً على طريق تحسين العلاقات.
لهذا التحفظ مبرّراته الموضوعية والواقعية، فهذا التفاهم ليس الأول من نوعه. وفي تاريخ العلاقات بين الجانبين محطّات كثيرة كانت تبشّر بتقارب وتعاون، لكنها جميعاً لم تكتمل. مثلاً، سبق للدولتين التفاهم في عام 1998 على تحسين العلاقات، وأبرمت بالفعل عدة اتفاقيات في مجالات متعدّدة شملت الاقتصاد والتجارة والاستثمار والتقنية والعلوم والثقافة والرياضة والشباب، وذلك في 27 مايو/ أيار 1998. ولم تترجَم أي من هذه الاتفاقيات على أرض الواقع. أما المحطة الأبرز، فكانت في 17 إبريل/ نيسان 2001 حين وُقِّعَت اتفاقية تعاون في المجال الأمني، بما يعنيه ذلك من تنسيق وتبادل معلومات حساسة والتشاور في قضايا مهمة أمنياً للطرفين. وكسابقتها، لم تنتقل الاتفاقية إلى التطبيق الفعلي.
ليست المعضلة بين إيران والسعودية في تدوين حسن النيات المعلنة على الورق، ولا توثيق التفاهمات في اتفاقيات مكتوبة، بل في افتقاد الإرادة الحقيقية الجادّة لتقارب فعلي، وليس ظاهرياً أو شكلياً. وتلك الإرادة المفقودة نتاج مباشر لإرث سلبي فكري وعقائدي، راكمته ورسّخته الخبرة التاريخية السيئة عبر قرون، وليس فقط عقوداً. والمحصلة هي الفجوة العميقة في الثقة، أو بالأصح انعدام الثقة بينهما.
بنظرة واقعية، يصعُب عملياً تحديد مصدر البداية أو من المسؤول عن هذا النمط الثابت من الريبة المتبادلة. وباستحضار المرجعية الحاكمة لمدركات الطرفين وسلوكهما، تؤول هذه الصعوبة إلى استحالة مطلقة، فرغم أن الإسلام ديانة البلدين، كان الاختلاف المذهبي العنصر الحاسم في تعميق الفجوة وديمومة الصراع. حيث رسّخ الموروث الفكري والديني لدى كل من الجانبين إدراكاً عدائياً مطلقاً عميقاً تجاه الآخر، لكونه تهديداً "وجودياً" يتجاوز حدود الاختلاف العقائدي المذهبي. صحيحٌ أن الطموحات السياسية والمنازعة على النفوذ الإقليمي كفيلة بإبقاء جذوة الصراع مشتعلة، وتطلّ برأسها سريعاً كما حدث خلال زيارة عبد اللهيان أخيراً الرياض، حيث استخدم تسمية الخليج "الفارسي" في المؤتمر الصحافي مع نظيره السعودي فيصل بن فرحان. ولكن هذه الجوانب المصلحية هي نفسها التي تُجبر الطرفين في أوقات معينة على التراجع والتظاهر بحسن النية والرغبة في التعاون والتقارب. بينما تظلّ المحرّكات الأساسية هي تلك الثوابت المرجعية التي لا يزال من الصعب على أي سلطةٍ سياسيةٍ أو صاحب قرار تجاوزها حالياً، وربما في المستقبل.