المستبدّون بعضهم أولياء بعض

08 ديسمبر 2024
+ الخط -

ما إن تقدّمت المعارضة السورية المسلحة ميدانياً شمال غربي البلاد، ونجحت في تحرير حلب، قبل أن تدخل أطراف حماة بداية ثم مدينة حماة على حساب قوات النظام، حتى تصدّرت المواقف الدولية والإقليمية عناوين الأخبار، وانبثقت عنها اتصالات ومباحثات، خصوصاً من الدول المؤثرة في المشهد السياسي والميداني السوري، على غرار إيران وتركيا والعراق والولايات المتحدة وغيرها، التي رغم تباين مواقفها من نظام الأسد، أجمعت تقريباً على بعض المخاوف من مزيد تأزّم الوضعين، السياسي والإنساني، محذّرة من استهداف المدنيين، ولا سيما أن للنظام وشبّيحته سوابق فظيعة في الأمر، كما تكرّر الحديث بين هذه الدول على ضرورة البحث عن تسويات سياسية، عبّرت عنها فرنسا وجهات أخرى بوضوح من خلال دعوتها إلى استئناف اجتماعات اللجنة الدستورية من دون تأخير تحت رعاية الأمم المتحدة.

تختلف المواقف من نظام الأسد بخلفيات سياسية وأيديولوجية ومصلحية في المنطقة، ولكن لم يعد خافياً على العيان بعد المعارك أخيراً، ضعف نظام الأسد وهشاشته في غياب الإسناد الروسي الإيراني، وفي غياب حاضنة شعبية له.

برهنت الحرب الصهيونية على غزّة ولبنان انتهازية هذا النظام الذي حاول جاهداً النأي بنفسه عن المعركة، متخلّياً في ذلك عن حليفه الرئيسي حزب الله اللبناني، وعن المليشيات المسلحة الموجودة داخل التراب السوري، التي تم استهدافها مراراً من جيش الاحتلال الإسرائيلي، من دون أن يحرّك النظام رأسه أو ينبس ببنت شفة، هذا إذا لم يكن قد قدّم بعضهم قرباناً للحفاظ على كرسيّه، وسط عاصفة هوجاء تهز أركان الإقليم والشرق الأوسط.

الواقع السوري يكذب نظام الأسد وأنصاره في المنطقة والدول العربية، سواء في ادعاء إسناده للمقاومة ودعمه لها، أو في مواجهته للإرهاب

كما أكدت الثورة السورية وما انجر عنها من أحداث كبيرة، وحشية هذا النظام ودمويته ولا مبالاته بدماء شعبه، وقصفه له بأطنان من البراميل المتفجرة والكيماوي وتشريده وتجويعه، ما أسفر عن تراجيديا شعبية حقيقية يعيشها ملايين السوريين إلى اليوم. وأكدت أيضاً التجربة إثر تمسك الأسد بالعرش على حساب حقوق مواطنيه وكرامته، عجزه عن تجاوز آثار الحرب التي فتحها، ما يتبين في بقاء جزء من الأراضي السورية خارج سيطرته سنوات، مع عجزه عن إدارة شؤون الناس الرازحة تحت حكمه، اقتصادياً واجتماعياً، حيث بلغت معدلات البطالة نسبة 42% وفقدت العملة المحلية نحو 97% من قيمتها، كما ارتفع الدين العام للبلاد لنحو 208% نسبة إلى الناتج المحلي، وفق دراسة أعدها المركز السوري لبحوث الدراسات.

لقد اختار نظام الأسد اتّباع سياسة التفضيل والزبائنية في نطاق مصالح اقتصادية شخصية وفئوية محمية بقوة السلطة والفساد، كعادته أو أكثر، رغم الأزمة الخانقة التي تمر بها البلاد والعباد، منها أزمة الكهرباء والوقود والعلاج.

"الميه تكذب الغطاس" كما يقول المثل المصري، كذلك الواقع السوري يكذب نظام الأسد وأنصاره في المنطقة والدول العربية، سواء في ادعاء إسناده للمقاومة ودعمه لها، أو في مواجهته للإرهاب أو غير ذلك، مما يتعلّل به لشرعنة وجوده.

المفارقة أنّ طيفًا واسعًا من "النخب التونسية" التي تجهر برفضها الانقلاب في تونس وانتكاسة الديمقراطية، تنافح عن نظام الأسد في سورية، بلا قيد أو شرط

دول قليلة هي التي عبرت عن مساندتها للنظام السوري ووصفت المعارضة المسلحة بالإرهاب، منها تونس التي أصدرت وزارة خارجيتها بياناً في هذا السياق.

ليس من الغريب أن يدعم النظام التونسي ما بعد 25 يوليو (2021) نظيره السوري، حيث عبر سابقاً الرئيس التونسي، قيس سعيّد، عن ترحيبه بعودة سورية إلى جامعة الدول العربية بعد تجميدها نحو 12 عاماً على هامش لقائه الأسدَ في أثناء القمّة العربية في جدّة (2023). وكان رئيس النظام السوري قد وصف تونس، في لقائه سعيّد، بأنها استُخدمت واحدةً من المنصّات "للتآمر على سورية ونشر الفكر الظلامي"، مضيفاً أنه تأكد بعد هذا اللقاء أن تونس لم تتغيّر.

شهادة الأسد في نظيره سعيّد دقيقة، حيث أكد ضمنياً أن تونس عادت إلى حظيرة الاستبداد ولم تتغيّر، أي رجعت إلى سياسات دعم الأنظمة التسلطية على حساب كرامة الشعوب وحرياتها، بعد أن كادت الثورة ثم التجربة الديمقراطية بإصلاحاتها الدستورية والتداول على السلطة وجائزة نوبل للسلام وغيرها من الإنجازات، كادت جميعها أن تقذف بها إلى برّ آمن وتجعلها علامة مميزة ومسجلة في العالم العربي.

يتفق كلاهما على عداء الديمقراطية والاحتكام إلى الإرادة الشعبية واحترامها، ويجتمعان على إتيان كل فعل موحش من أجل البقاء على الكرسي بفوارق في حجم الجريمة فرضتها الجغرافيا والتركيبة الإثنية والديمغرافية والتاريخ السياسي لكل منهما والإمكانيات.

المستبدون بعضُهم أولياء بعض، كجسد واحد، إذا مسّت ثورة أو رياح تغيير أحدهم تداعى له سائر الجسد بالدعم والمؤازرة.

شهادة الأسد في نظيره سعيّد دقيقة، حيث أكد ضمنياً أن تونس عادت إلى حظيرة الاستبداد ولم تتغيّر، أي رجعت إلى سياسات دعم الأنظمة التسلطية

ليظل المشكل العالق في ذهني متمثلاً في طيف واسع من "النخب التونسية" التي تجهر برفضها الانقلاب في تونس وانتكاسة الديمقراطية، بينما تنافح عن نظام الأسد في سورية، بلا قيد أو شرط، في وجه كل ثورة أو تغيير أو إصلاح، ومن دون مبالاة بالوضع المأساوي الذي يعيشه الشعب لعقود.

كيف يجرؤ بعض ممن يضعون أنفسهم في صف النخب الديمقراطية على الدفاع عن نظام عائلي طائفي عمره أكثر من 50 عاماً، في غياب كل مؤشرات الدولة بمعناها المؤسّساتي والمدني، فضلاً عن وحشيته ودمويته. وحتى لو افترضنا جدلاً أن هذا النظام ينتمي إلى جبهة المقاومة فعلاً، هل يمنحه ذلك حق الدوس على كرامة الشعب وحقوقه لعقود، بل التعدي على حق مواطن واحد من شعبه، وليس امتهان القتل والتعذيب والاغتصاب وغيرها من الجرائم اليومية، التي تعدّت المجال الترابي السوري.

موقف دعم راديكالي يختلف تماماً عن رأي يوازن بين مخاوف من التطورات الميدانية الأخيرة وسط رمال متحركة تقف عليها المنطقة بعد معركة السابع من أكتوبر، والاعتراف والإقرار بوحشية النظام. كما أنه يخفي حالة من السكيزوفرينيا القيمية والأخلاقية في تبني الخطاب المواطني والحقوقي، حيث تتحطم شعارات الديمقراطية لدى جزء من النخب والنشطاء التونسيين على صخرة الواقع في كل امتحان جاد، وكان آخرها على المستوى الوطني اختبار ليلة 25 يوليو/تموز 2021 حين خذلت هذه النخب بلادها وتجربتها العربية الرائدة، طمعاً في إقصاء الغريم الإسلامي من الحكم والمشهد السياسي، ليقف رئيس البرلمان المعتقل راشد الغنوشي وحيداً حينها مع بعض النواب، لم يتجاوز عددهم 15 من بين 217 نائباً، ونفر قليل من المحتجين، أمام باب المجلس النيابي الموصد بدبابة، إلا أن رياح الاستبداد أتت بما لم تشتهِه سفن الشبه الديمقراطيين وساوت بين جميع المراكب في الغرق.