المرأة التي تعشق كومةً من الحجارة

05 يونيو 2024

فلسطينية تحاول رسم الفرحة على وجوه الأطفال في خانيونس جنوب قطاع غزّة (2/6/2024/الأناضول)

+ الخط -

قالت لي وهي تجلس قبالتي، بعد أكثر من 40 عاما من الفراق والبعاد، وفيما كان بصرها يسرح بعيدا ليتجاوز كتفي، فتخيّلته يمتدّ ليصل إلى تلك المدينة التي كانت: أنا أعشق مدينة خانيونس.

يمكن أن تصاب بالدهشة حين يخبرك أحد بهذا الخبر، أو حين يقرّ بهذه الحقيقة الراسخة في أعماقه، وهو الذي لم يعش فيها سوى سنيّ طفولته الأولى التي لم تتجاوز السبع سنوات غالبا، ولكنه حمل الصورة في ذاكرته وروحه وكيانه، وغادر وبقي العشق، بل إنه يكبر، ويزداد، ويتعاظم، وترافقه الدموع والحسرات والزفرات الحارقة كلّما تواترت الأخبار عن تلك المدينة التي حوّلها مغول العصر وفي أدقّ وصف إلى كومة من الحجارة.

شاءت الأقدار أن ألتقي بابنة عمّي المعلمة القديرة الرائعة، والتي تعدّ من الرعيل الأول الوافد إلى قطر، حيث عملت معلّمة للغة العربية حتى وصلت إلى سن التقاعد، ولأنها تجيد التعبير بمفردات لغة الضاد، وتُحسن توظيف كل مفردة، فهي تعبّر بكل صدق، وتوصل لقلبك ما يشعر به بكل دقّة حين تصف حبّها لتلك المدينة، وحين تحدّثك عنها وكأنّها تتبادل الأدوار معك، فقد عشت في تلك المدينة الجنوبية ثاني مدن قطاع غزة من حيث المساحة قرابة نصف قرن، ولكن تلك المرأة العاشقة لها تخبرك بأدقّ تفاصيل تلك المدينة وكأنّك أنت الذي انتزعت منها في عام النكسة مع أسرتك وأنت لا تزال طفلا لا تعرف معنى حبّ المدن وعشق الأوطان، وتترك لها مساحة لكي تلتمع عيناها الواسعتان السمراوان الأخّاذتان، ويترقرق فيهما دمع لؤلؤي ساحر وتهمس في حنين: كم أحبّها...

في هذه اللحظات، تشعر أنّك قد وقعت فعلا على من ينافسك في حبّ مدينتك الأولى ومرتع الطفولة والصبا ومحطّة الشباب العابرة، ونافذة القطار الذي مضى سريعا بكل الصور التي التقطها على عجل وبقيت رغم ذلك محفورة في ذاكرة أيامك، وتتنهد تنهيدة لا يضاهي حرارتها سوى تهدّج صوت المرأة المغتربة، وهي تحاول أن تخفي الحنين بحركة مضطربة من ذراعيها وهي تحاول إحكام غطاء رأسها، ثم تطلق زفرة حارّة لا تخطئها هذه المرة وهي تومئ نحوك وتقول في حزن تشاركها فيه بالطبع: لقد دمّروها، لم يبقَ فيها سوى الحجارة وأهلها.

كنت سأخبرها أن المدينة التي يعود ناسها إلى حجارتها لا تموت، ولا ينتهي تاريخها، ولكنها كالعادة سبقتني، وقالت: سوف يعمّرها الأطفال، لا يمكن أن ينسى الجيل الجديد ثأر مدينة آبائهم وأجدادهم، فأومأتُ برأسي بأن ذلك سيحدث حتما طال الزمن أو قصر، فلا يمكن لمدينة تحتضن البحر العملاق أن تنتهي، وحتى الحجارة الباقية المغتسلة بالدم والدمع سوف تتحرّك لتكتب زمنا جديدا في هندسة جديدة محيّرة للعقول ومثيرة لحنق العدو المارق عنها.

شاءت الأقدار أن ألتقي بابنة عمي في مدينة القاهرة، وكان لقاؤنا الأخير في القاهرة أيضا، وكنتُ ما زلت مراهقة صغيرة في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، وفي زيارات قصيرة قَصَدت بها مدينة خانيونس مسقط رأسها استطاعت أن تستلّ حبّاً وذكريات لها هناك، وحين التقينا للمرة الثانية قبل أيام وبعد أن تركت المدينة خلفي وهي تئنّ وجراحها تنزف، وفي قلبي حسرات ولوعة، قالت لي: أتذكرين شوارعها، إن هذه المدينة مميزة في كل شيء، تشبه صندوقا مغلقا وبداخله قطع لعب صغيرة مرتبة ومنظمة لا يستطيع احد أن يرتّبها سوى أهلها الذين يخبرونها جيدا، فالشوارع والأزقة والقلعة وسوق الغلال وما تبقّى من قضبان لسكّة الحديد التي كانت تمرّ من فوقها قطارات قادمة من مصر، والبحر الذي يربض على حدودها الغربية، والسلّة الغذائية الخضراء على حدودها الشرقية، ذلك كله في صندوق مغلق ومرتّب القطع لو انتزعت منه قطعة فأنت في هذه اللحظة سوف ترى مدينة غير المدينة، لأنّ كل قطعة تمسك بتلابيب أختها لتصنع قلعة الجنوب كما يطلقون عليها.

لمدينة خانيونس، أي قلعة الجنوب، تاريخ قديم وإن كانت محطّة للقدماء حين يسافرون ويرتحلون فهي الأصل لي ولابنة عمّي، وقد اجتمعت أنا وهي على حبّها، حتى ونحن نراها كومة من الحجارة، وكل الصور التي ترد من هناك تخبرك بحقد أسود عاث بها فسادا، ولكن هيهات للحقد أن يناطح كفّا طرّزت من الحب.

دلالات
سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.