المجتمع المدني التونسي الداعم للانقلاب
تصاعدت، أخيراً، وتيرة المبادرات التي يعلنها أصحابها مباشرة بعد الفشل الذريع للانتخابات، وهي مبادراتٌ ما زالت تتلمّس خطاها الأولى في انتظار أن تكشف الأيام القليلة المقبلة عن دقيق فحواها. تقف وراء بعض هذه المبادرات جهات سياسية، وأخرى تصوغها جهاتٌ مدنيةٌ، أي منظمات وجمعيات تنتسب إلى المجتمع المدني، وهي التي ساندت مسار الانقلاب الذي دشّنه الرئيس، قيس سعيّد، يوم 25 يوليو/ تموز2021، وحظي أشهراً طويلة بمباركتها بشكل واضح وصريح أو بشكل متلعثم وخجول (تحت ما عادت تُعرف بالمساندة النقدية، الشراكة ...). لم يخل ذلك أحياناً من التواطؤ مع جملة الانتهاكات التي عرفتها الحقوق والحريات العامة والفردية، تفكيك مؤسّسات الانتقال الديمقراطي، الكيل بمكيالين. ها إن ثالوث المجتمع المدني الأبرز: الاتحاد العام التونسي للشغل، الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان يبدأ مشاوراتٍ أولية من أجل صياغة مبادرة سياسية، من أجل تجاوز الحالة المتردّية والعبث السياسي الذي وصلت إليه البلاد.
أي مبادرة في اتجاه وضع حد للانقلاب وإعادة المسار الديمقراطي مهمة، ولا يمكن إلا أن تثمن. ولكن علينا أن نتذكّر أن بعض هذا الثالوث تنكّر للحوار الوطني الذي قاده سنة 2013، ورذّل مخرجاته، ومارس ضرباً من الهيمنة والاستعلاء الذي لا نرى له مبرّراً، فكأن الأحزاب السياسية شياطين أو هي، في أحسن الحالات، كيانات غير ناضجة، وهي تحتاج وصايته. فعميد المحامين الأسبق هو المترشّح الحالي لمجلس النواب، وكان قد انضمّ الى اللجنة التي عيّنها سعيّد لصياغة الدستور. ظل صامتاً عن كل التضييقات التي طاولت زملاء له محامين، وصلت إلى سجن بعضهم، بمن فيهم العميد الأسبق عبد الرزاق الكيلاني. أما الرابطة، فغضّت الطرف عن كل الاعتقالات وعودة التعذيب، خصوصاً حين طاولت الإسلاميين. أما اتحاد الشغل، فقد تنازل عن الدستور الشرعي للبلاد، وسارع بعض من قياداته إلى إشهار أصابعهم المزينة بالحبر الأزرق يوم الاستفتاء على دستور الانقلاب.
بعد سويعات من الانقلاب، سارعت عدة منظمات كانت تعدّ عنوان المجتمع المدني إلى مساندته
كان التونسيون، حينما يُؤتى على مقارنة تونس بالانقلاب المصري، يهرعون بزهو وفخر كثيرَين إلى استحضار المجتمع المدني الذي كنا نعتقد أنه صنع الفارق، وأنه حال دون وقوع الانقلاب. وكانوا يقولون، في شكل غزلي ساذج، إن الجيش التونسي يختلف نشأةً وعقيدةً عن مثيله المصري، غير أن الأيام بينت لهم حدود تلك السردية التي كانوا يعيدونها آنذاك من أجل إثبات الاستثناء التونسي. لقد اكتشفوا، مع الانقلاب، أن تلك الحجج التي سارعوا في تقديمها لم تكن، في النهاية، سوى أوهام. بعد سويعات من الانقلاب، سارعت عدة منظمات كانت تعدّ عنوان المجتمع المدني إلى مساندة الانقلاب، ودعوته إلى المضي في مشروعه الانقلابي.
عمدت ما يناهز 50 تشكيلة مدنية إلى مساندة الانقلاب، وهي جمعيات ومنظمات نسوية وحقوقية ظلت تتحرّك خلال كامل العشرية الماضية، من دون أدنى تضييق، بل شكلت قوة اقتراح استمعت إليها جل الحكومات، سواء عند مشاريع سنّ القوانين أو وضع التصورات والخطط والمشاريع، ومع ذلك حيّت الانقلاب واصطفّت إلى جانبه. كانت هذه المنظمات والجمعيات تحتكر الحداثة والمدنية، وتدّعي أنها ممثلة لتطلعات المجتمع التونسي، وهي ضميره الحيّ. استطاع هذا المجتمع المدني أن ينعم بمآثر الانتقال الديمقراطي الذي عاشته البلاد: سماء واسعة من الحرية من دون قيد أو شرط، إمكانات مالية ولوجستية ضخمة تمتعت بها من أجل بناء مشاريعها، حضور إعلامي غير مسبوق، المساهمة في صنع القرار، تشكيل جمعات ضغط (شبكات نفوذ) يُقرأ لها ألف حساب. ومع ذلك، صفقت للانقلاب وشتمت هذا الانتقال الديمقراطي الذي لم ترَ في سنواته سوى عشرية خراب سوداء. وها هي، وقد غربت شمس الانقلاب، تعود لتعلن حماسَتها لإطلاق مبادراتٍ تحفظ الوطن من الانهيار، على حد قولها. ومثلما أفتت للانقلاب، تنبري حالياً مفتياً من أجل إنقاذ ما بقي من وطن.
نزع الأسطرة عن مجتمعنا المدني وأدواره الملتبسة وقيمه المزدوجة خطوة حاسمة لمن أراد الاعتبار
ومع كل هذه التحفّظات، نؤكد أن الأرضية التي يمكن منها أن ينطلق مختلف الفرقاء أن الأزمة السياسية الحادة التي تعيشها البلاد لا تجد حلاً لها إلا في حوار وطني سياسي، يسنده هؤلاء فحسب. شيطنة الفاعلين السياسيين والارتقاء بالمجتمع المدني هو الوجه الآخر للشعبوية التي يبشر بها الرئيس، وهي، في النهاية، ليست إلا مناولة لأطروحات الرئيس ومقولاته. شرط التحرّر السياسي هو التحرّر من كل أشكال الوصاية على السياسيين، أحزاباً وذوات اعتبارية. نزع الأسطرة عن مجتمعنا المدني (démystifier) وأدواره الملتبسة وقيمه المزدوجة خطوة حاسمة لمن أراد الاعتبار.
لا يمكن أن نتوهّم، مرة أخرى، أن هذا المجتمع المدني صمام أمان يحول دون الاستبداد والتسلط وكل أشكال الانحرافات الخطيرة التي ينزع اليها الدكتاتوريون. عليه أن يكون أكثر تواضعاً، وشرط ذلك بعض من النقد الذاتي.