المثقف والسلطة؛ كن حرّاً .. وحسب
في بقية حكاية الشاعر أبي تمام مع أمير خراسان، بوصفها نموذجاً لعلاقة المثقف بالسلطة، والتي تناولها مقال الأسبوع الفائت، هنا، ما يعبّر عن حقيقة تلك العلاقة في كل زمان ومكان.
لقد غفل أبو تمام، إذن، عن واحدةٍ من خصائص السلطة الغاشمة، وهي أنها لا تحتاج مثقفين حقيقيين وأحراراً مؤمنين بمبادئها وأفكارها على سبيل المثال، بقدر ما تحتاج أتباعاً، ربما يظنّون أنفسهم أو يظنّهم الآخرون أحراراً، لكنهم ليسوا كذلك، فيُوالونها على السمع والطاعة في كل ما تقول، وبلا تفكير مُسبق. أي أن المثقفين المعارضين والموالين يتساوون في نظر السلطة الغشوم عموماً، فلا فرق حقيقياً بينهما، حتى وإن بدا ذلك ظاهرياً.
ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن بعض السلطات الغشوم تنظر إلى المثقف، الموالي لها عن قناعة وإيمان صادق، بعين الشك والريبة أكثر مما تفعل مع المثقف المعارض لها بوضوح، فالمثقف الموالي الحقيقي والشريف لا بد أنه سيكتشفها على حقيقتها يوماً، وسينقلب بما يضرّها أكثر من ضرر غيره وأشدّ، وهي تعرف ذلك تماماً، لأنه في تلك الحالة سيكون الأقدر على النفاذ إلى ثغراتها الخافية من الآخرين الأبعدين حتماً. ولهذا تحرص مثل هذه السلطة، ذات الثغرات الخفية، على نوعية من "المثقفين" من ذوي الطاعة العمياء، بغض النظر عن إيمانهم أو عدم إيمانهم بما تقول وتفعل، وهذا لا يتحقق في المثقف المستقل، حتى وإن كان موالياً لها، مُدافعاً عنها مُنافحاً عن سياساتها.
لقد تعمّد أمير خراسان، كما بدا من سياق حكايته مع أبي تمام، أن يجعل الشاعر الذي يملك سلطان البيان، ينزل بجسده إلى مستوى أقدام الجالسين حوله، وغالبيتهم من الشعراء، أي من المثقفين أيضاً، ليلقط ما نثره عليه من دنانير، اختباراً لدرجة ولائه أو نوعيته، وكان بإمكانه، على سبيل المثال، أن يقدّمها له واقفاً أو جالساً. أما وقد اختار أن ينثرها عليه بهذا الشكل، كما تنثر الحبوب للدواجن على الأرض، فلا يمكن أن تكون مصادفةً أو مجرّد تصرّف سائد، وإلا لما توقف عندها الشاعر اللبيب، ولما التقط الرسالة الموجهة إليه، وإلى الحضور من الشعراء، وغيرها من خلالها، ولما عرف المعنى المهين الكامن فيها، ولما كانت ردة فعله عليها بهذا الشكل الرافض للعطية، وهو المادح المنتظر للعطاء أساساً. وإن كانت القصة برمتها غير حقيقية أو مبالغاً فيها، فإن هذا لا ينفى أن تكون واقعية جداً ما دام الأصفهاني قد كتبها في أغانيه ذات البعد النفسي الشعبي المقبول اجتماعياً آنذاك بهذه الصيغة.
وفي القصة، تبدو واحدة من إشكاليات العلاقة الخاصة التي تربط ما بين المثقف والسلطة عموماً، وتدل على أن هذه العلاقة لا يمكن أبداً أن تكون صحيّة ما دامت السلطة تنظر إلى المثقف باعتباره تابعاً، أو ينبغي أن يكون وحسب، يتساوى في ذلك من معها ومن ضدها من المثقفين. وهذا يعني أن من الخطورة جداً أن يوالي المثقف هذا النوع من السلطات الغاشمة، حتى وإن كان يفعل ذلك مجاناً ولوجه الله والحقيقة.. وحسب، بل عليه أن يحتفظ دائماً بمسافةٍ واسعةٍ بينه وبينها، تضيق أو تتسع بحسب ضيق المسافة أو اتساعها بين تلك السلطة والشعب، وهي المسافة التي تسمح له أن يكون حراً دائماً في كتاباته وأفعاله تجاهها رفضاً أو مُوافقة.
والمسألة على شكلها المعقّد ظاهراً بسيطة في حقيقتها؛ كن حُرّاً وحسب.