الماء والسراب
كدتُ أن أموت عطشاً، دائماً ما تردّد هذه العبارة وأنت تتناول قارورة الماء وتتجرّعها دفعة واحدة، لكي تروي عطشك بعدما تدلّى لسانك، وأصبحت تلهث بسبب ما أصابك من جفاف، وكأن نجاتك بجرعة ماء. وهكذا فنحن دائماً وغالباً نشعر بذلك الإحساس، وهو حاجتنا لشرب الماء حلّا وعلاجا لأمراضٍ عدة، ولم نتوقّف يوما أمام ظاهرة الإسراف في شرب الماء التي قد تودي بحياتنا، على الرغم من أن شرب ماءٍ كثير دفعة واحدة قد يسبّب ما يعرف طبّياً بالتسمّم بالماء المؤدّي إلى الوفاة.
وقد تداولت الأنباء قبل أيام خبراً عن أمّ أميركية ثلاثينية توفيت بسبب إصابتها بالتسمّم المائي، وكانت قد عادت إلى بيتها بعد قضاء عطلة نهاية الأسبوع مع أسرتها في بحيرة فريمان بولاية إنديانا، وقبيل عودتها إلى المنزل شعرت بدُوار وصُداع وأعراض الجفاف، ما دفعها إلى تناول أربع عبوات من المياه، ليكون مجموع ما شربته لترين من الماء خلال 20 دقيقة، ما أدّى إلى وفاتها، إذ يفسّر الأطباء أسباب الوفاة بزيادة شرب الماء بأنّ الماء عموماً يحتوي على نسبة عالية من ملح الصوديوم، والكليتين عادة تتخلّصان من لتر من الماء كلّ ساعة، وعند عجز الكليتين عن التخلص من الماء الزائد توعزان للدم بتخفيف نسبة الصوديوم في محتواه، ما يؤدّي إلى مشكلات بسيطة، مثل الهلوسة وفقدان الوعي. وفي حال انخفاض نسبة الصوديوم، يُصاب الإنسان بتورّم في الدماغ يؤدّي إلى الوفاة، مثلما حدث لهذه السيدة التي اعتقدت أنها سوف تتخلّص من عوارض العطش الشديد التي انتابتها، مثل التعب والصداع، بشرب كمّية كبيرة من الماء في وقت قصير، ولم تعرف أن كل شيء إن زاد عن حدّه ينقلب إلى ضدّه حتماً.
يبدو أن تداول مثل هذا الخبر يفتح عيوننا على أنّ الإسراف في أي أمر لا نتائج طيبة له، حتى لو كان هذا الأمر محبّباً إلينا، أو أننا نقوم به بشكل روتيني أو يومي، ففي بعض الأحيان قد نُسرف في أداء عملٍ حتى يبخسنا الآخرون حقوقنا، ويصبح ما نقدّمه إلزاماً لا إحساناً، وقد نُسرف في الحفاظ على صحتنا فنُصاب بهوس المرض، فمثلاً هناك تحذيراتٌ متداولة على الدوام تشدّد على ضرورة عدم الإسراف في تناول المكملات الغذائية، مثل الفيتامينات، من دون مشورة الطبيب. وقد كثر الحديث بعد جائحة كورونا عن علاقة مستويات فيتامين د في الجسم والإصابة بالفيروس الذي قضى على أرواح الملايين، ولكن ذلك لا يمنع أن تعاطي هذا الفيتامين مدّة طويلة، ومن دون قياس مستواه كل ثلاثة أشهر في الجسم، يؤدّي إلى مضاعفات خطيرة على الإنسان.
عودة إلى الماء الذي كنّا نكتب عنه في موضوعات الإنشاء في سني طفولتنا أنه سرّ الحياة، ولم نكن قط نجد تعبيراً مختصراً وشاملاً عن أهمية الماء في حياتنا أكثر من هذا الإيجاز، وكثيراً ما تداولنا قصصاً وحكايات عن أشخاصٍ قضوا في الصحراء بسبب قلّة الماء، وكثيراً ما تداولنا تعبير السراب، وحذّرنا أجدادنا من سراب الصحراء، وحكوا عنه خرافات، وهو الذي يتراءى للعطشان من بعيد فيحسبه ماءً، ويهرع نحوه فلا يجد شيئاً، ولكن خيال الإنسان لم يتوقّف عند التفسير العلمي لأسباب حدوث ظاهرة السراب الصحراوي، فحذّر السائرين من الوحوش الأسطورية التي تربض مكان رؤية السراب. وقد حذّر القرآن الكريم أيضاً من عبث التهالك على متع الدنيا، مهما كان ثمن الوصول إليها، حيث يكتشف أنه كان واهماً مثل وهم السائر في الصحراء. أما الإسراف في شرب الماء فقد جاء التحذير منه مختصراً وحاسماً في قوله تعالى "وكلوا واشربوا ولا تسرفوا". وبعد مئات السنين، اكتشف العلماء أضرار الإسراف في شرب الماء، خصوصاً إن كان الإنسان واقفاً على قدميه. ولأنّنا نتعلّم بالتجربة علينا فعلاً أن نعرف مغبّة الإسراف في كلّ شيء، مأكلاً ومشرباً كان أو عواطف ومشاعر.