المؤامرة صناعة محلية
يتحدّث الروائي الفلسطيني، حسن حميد، في روايته "جسر بنات يعقوب" (اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2002)، عن يعقوب المهاجر مع بناته الثلاث، والذي استوطن المنطقة ما تحت الجسر الذي يمر فوق نهر الأردن في فلسطين. استطاع يعقوب، الذي رمز به إلى إسرائيل، السيطرة على المنطقة كلها عبر إنشائه خانا تحوّل إلى بيت دعارة تعمل به بناته الثلاث اللواتي استطعن جذب رجال المنطقة وإغراءهم لدفع المال أو التخلي عن أراضيهم وبيوتهم مقابل المتعة. الأخطر ما يقوله الراوي عن يعقوب، الذي روّج عن نفسه أنه قادرٌ على معالجة عقم النساء، فكانت نساء المنطقة يقصدنه ليتعالجن من العقم، وطريقته في ذلك مضاجعتهن، "هكذا يقال إنه لم تبق امرأة من نساء القرى المتوزعة تحت الجسر لم يضاجعها يعقوب"، إلى أن يٌقتل يعقوب على يد رجلٍ شاهد زوجته عاريةً في أحضانه، بعد أن قصدته للعلاج من العقم. الرواية التي نالت جائزة نجيب محفوظ ذات يوم، وكتبت عنها عشرات المقالات، تقترح أن "الفلسطينيات" كن عقيمات، وأن "الجيل الفلسطيني" الذي تزامن وجوده مع بدء الاستيطان هو "جيل إبن حرام" ومجهول النسب، أو ينتسب حقيقة إلى يعقوب، الغريب القادم للسيطرة على المكان، والذي سمي الجسر باسمه واسم بناته حسب اقتراح الرواية وصاحبها.
لا أعرف لماذا تجاهل كل من كتب عن الرواية أو منحها جائزة هذا التفصيل المهم، والذي بنيت عليه الرواية أساسا، ويعطي حقا مجانيا لإسرائيل باستيطان المنطقة، طالما أبناء هذه المنطقة ينتمون "بيولوجيا" إلى يعقوب اليهودي، أو على الأقل هو يقدّم مبرّرا منطقيا للاحتلال، يمكن الاستناد إليه، لولا أن العمل هو رواية تخييلية، (أليست حكاية أرض الميعاد من أصلها رواية تخييلية؟!).
لحسن حميد أيضا كتاب آخر غير روائي، "البقع الأرجوانية في الرواية الغربية" (اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1999)، لم يترك أحدا من عباقرة العالم اليهود، وغير اليهود، إلا ووجد في إبداعه ما يروّج الصهيونية. وفي ظني أن إسرائيل، بكل البروباغاندا التي تملكها، عاجزة عن صنع دعاية لنفسها كالتي يقدّمها هذا الكتاب.
بعد أيام سوف تقام مسابقة انتخاب ملكة جمال الكون في إيلات، في إسرائيل، الاحتفالية التي انسحبت منها ملكة جمال اليونان رافئيلا بلاستيرا، وقد قالت "لا يمكنني الصعود إلى تلك المرحلة، والتصرّف وكأن لا شيء يحدُث، بينما يقاتل الناس من أجل حياتهم هناك"، تشارك فيها ملكة جمال المغرب كوثر بن حليمة، وهي مغربية من أصل جزائري، ومكسيكية بوليفية اثنتاهما من أصل لبناني، وتتحدّثان العربية. لم تشعر الشابات الثلاث أن وجودهن في إيلات خطأ أخلاقي كبير، فثمّة تهافت عربي سياسي غير مسبوق للتطبيع مع إسرائيل، وثمّة حكوماتٌ عربيةٌ تفتح أبوابها على اتساعها للترحيب والاحتفاء بكل ما هو إسرائيلي، بما فيها الطقوس الخاصة بالدولة العبرية. وثمّة تحوّل في بعض المزاج الشعبي العربي بما يخصّ العلاقة مع إسرائيل حدث نتيجة الإجرام الذي تمارسه الأنظمة العربية ضد شعوب الربيع العربي منذ عشر سنوات، والذي إنْ تمت مقارنته بما ارتكبته إسرائيل ضد العرب منذ تأسيسها لكانت النتيجة في صالح إسرائيل حتما.
لم أشاهد فيلم "أميرة" (إخراج المصري محمد دياب، 2021، بمشاركة ممثلين أردنيين ومصريين وفلسطينين)، لكن ما قرأته عنه من أصدقاء هم مصدر ثقة بالغة، ومتخلّصون من عقدة المظلومية ونظرية المؤامرة، يوضح أن الفيلم لا يختلف كثيرا عما أرادت رواية "جسر بنات يعقوب" قوله، عدا عن إساءته لقضية الأسرى ومعاناتهم، والتلاعب برمزية الإنجاب عبر تهريب النطف من المعتقلات الإسرائيلية إلى الزوجات الفلسطينيات، في إصرار استثنائي على الحياة، ومحاولة إنجاب جيل مقاوم، رغم أنف الاحتلال والمعتقلات.
لا مصادفات في كل ما يحدث، منذ تأسيس دولة الكيان الصهيوني. كل ما حدث للعرب كان بغرض الوصول إلى الوقت الذي تصبح فيه إسرائيل جزءا كاملا من نسيج المنطقة، من دون اعتراضٍ أو مقاومة. كل ما تم فعله بالشعوب، التغييب والتجهيل والإجرام والتهجير والتفقيروالتفتيت وتعطيل التحليل والتفكير والشك بذريعة الدين والتسليم، ووأد كل محاولات للتغيير وقتلها هو للوصول إلى وقتٍ كهذا. المؤامرة فينا، فهل نتعظ؟