اللاجئون السوريون بين الاندماج والعودة
في حوار نقدي دار حول الإدارة الفرنسية لملف اللجوء السوري، بالاستناد إلى نتائج استطلاع رأي نفذته منظمة "اليوم التالي" السورية، في فرنسا وهولندا والسويد وألمانيا، تصدّى أحد اللاجئين للنقد الذي وجه إلى الاستغلال السياسي، كما الاستخدام الانتخابي، وهما اللذان يؤدّيان إلى التأثير سلباً في معالجة ملفات اللجوء السوري، وخصوصاً في السنتين الأخيرتين. وقد حاول، من خلال خطابٍ شديد الإيجابية ومدح الإدارة الفرنسية، أن يفنّد كلّ ما سيق من سرد لعراقيل بيروقراطيةٍ تُشير إليها الصحافة الفرنسية نفسها، وتندّد بها منظمات المجتمع المدني الفرنسية نفسها. وفي معرض الإطناب والمديح اللذين أغدق بهما على السياسات العامة في فرنسا، متأثراً ربما بثقافة المنشأ التي علمتنا أن نمدح الحاكم بالأمر، سعياً إلى تحسين الأوضاع، إلى جانب الإشارة إلى أنّه أتقن اللغة الفرنسية في ثلاثة أشهر (...)، فقد ركّز المحاور على تحميل اللاجئين مسؤولية جُلّ الصعاب التي تجعل من أحدهم مثلاً. وكما قدّم أحد المشاركين، أن ينتظر ثلاث سنوات للحصول على جوابٍ واضح بقبوله أو برفضه من الإدارة المختصة. وأشار إلى رفضه التطرّق إلى الإرث الاستعماري الفرنسي في تفسير آلية التعامل مع مسألة الهجرة عموماً، واللجوء خصوصاً، التي عالجتها عشرات المؤلفات العلمية الفرنسية، كما كثير من تصريحات السياسيين الفرنسيين، كشارل ديغول وفرانسوا ميتران. وفي المقابل، شدّد على أنه في الحالة السورية لا يمكننا الحديث عن استعمار فرنسي، بل عن انتداب فرنسي عامل السوريين معاملة حسنة للغاية، وكانوا سعداء به (...). كذلك لم ينسَ محاورنا أن يندّد، على عادة اليمين التقليدي المتقارب عموماً من اليمين المتطرّف في فرنسا، بمن نعتهم بالإسلامويين اليساريين، مشيراً، ولو بطرف لسانه، إلى أنّ طرح المسألة نقدياً يجعل من المتحدّث، وقد كنت أنا، متهماً حتماً بالانتماء إلى هذه الفئة التي توجّه إليها أصابع الاتهام والإدانة في الأشهر الأخيرة من المكارثية الفرنسية المتجدّدة، ومن لفّ لفّها.
القوانين المتعلقة بحقوق الإنسان، المواطن كما غير المواطن، هي من أرفع القوانين وأكثرها إيجابية
وبمعزلٍ عن المبالغة في الدفاع غير المسنود علمياً، ولا سياسياً، عن الإدارة الفرنسية للملف الشائك، وبمعزلٍ عن القدرة الهائلة على تعلم لغة موليير في ثلاثة أشهر، مع تأكيد وصوله إلى برّ بلاد الغال من دون معرفة حرف واحد منها، وبمعزل عن مدح الانتداب الفرنسي في سورية، وكلّها مواقف شخصيةٌ يمكن أن نوجد لها تبريراً ما، فإنّني توقفت عند تفصيلٍ جاء في معرض المرافعة التي سمعت. لقد أشار مخاطبي إلى أنّ الدليل على أنّ اللاجئ السوري يتمتع بحياة رغيدة في فرنسا هو رقم ورد في الاستطلاع، يُفيد بأنّ نسبة عالية من المستطلعة آراؤهم لا يرغبون في العودة الى سورية.
لمقابلة هذا الاستنتاج غير الدقيق، أشير إلى أنّه قبل عدة سنوات، نفّذ مركز "كارنيغي" في الشرق الأوسط استطلاعاً مشابهاً في أوساط اللاجئين السوريين في مخيم الزعتري في الأردن، وقد كانت نسبة رافضي العودة عالية جداً. وبالطبع، هي لم تكن تستند إلى حسن الإقامة ولطافة المناخ الصحراوي ومتانة السكن القماشي أو المعدني المعتمد، ولا حتى إلى الأوضاع الغذائية الرفيعة، ولا إلى إمكانات العمل المتاحة بكثرة، بل أجمع سكان المخيم على أنّ عودتهم مرتبطة، في إرادتهم الذاتية على أقل تقدير، بتحقق شروط ثلاثة: الأمن والأمان، وبدء مسار العدالة الانتقالية، والشروع في عملية الانتقال السياسي. وأعتقد أنّ ما أجمع عليه سكان مخيم الزعتري الصحراوي، يتفق عليه جميع اللاجئين السوريين، مهما اختلفت مشاربهم السياسية، ومهما تنوعت بلدان إقامتهم بين مخيمات الصحراء، وصولاً إلى ضفاف السين والدانوب وما بينهما.
أهم ما يستفيده اللاجئ في بلادٍ تتمتع بحرية التعبير أن يتمكّن من اللغة النقدية الهادئة
وحتى لا يُساء فهم طرحي النقدي، الذي لا أجرّد من خلاله الفرنسيين حكومة وشعباً (كما يرد في خطاباتنا التقليدية الخشبية) من فضيلة الاستقبال وكرم الوفادة وحسن المعشر، أشدّد على أنّ القوانين المتعلقة بحقوق الإنسان، المواطن كما غير المواطن، هي من أرفع القوانين وأكثرها إيجابية. في المقابل، بسبب المتابعة اليومية للحدث السياسي المحلي، أسمح لنفسي غير المغرضة أن تتوقف عند الأداء السلبي في بعض مفاصل هذا الملف.
وبالعودة إلى استطلاع منظمة "اليوم التالي"، فقد أبرز عدداً من الأرقام المؤشّرة على درجة الاندماج، من خلال متغيرَي تعلم اللغة ودخول سوق العمل. وأهمية التوقف عند المتغير الأخير تذكّر بعبارة للمستشارة الألمانية، أنغيلا ميركل، في القمة الاقتصادية في ميونخ سنة 2016، التي خصصت لمسألة اللجوء، حين أصرّت على أنّ الاندماج يمرّ عبر سوق العمل. إضافة إلى المتغيرين الأساسيين السابقين، يهتم الاستطلاع بدرجة الاندماج في المجتمع المُضيف، وهذا تفصيلٌ مهم للغاية، يحتاج دراساتٍ نوعية تفتقر إليها مكتبتنا العربية، في حين أنّنا نجد أبحاثاً كثيرة في اللغات الأخرى.
أهم ما يمكن أن يستفيد منه اللاجئ في بلادٍ تتمتع بالديمقراطية وحرية التعبير، أن يتمكّن من اللغة النقدية الهادئة، وأن يتخلص من رواسب الإطناب تجاه السلطة القائمة. إنّه في طور أن يصبح مواطناً كامل الحقوق في بلد اللجوء، بعدما طال مكوثه في فئة الرعايا في بلده المنشأ.