اللآلئ البهيّة في بيان الروح المعنوية

20 أكتوبر 2016

(حسن جوني)

+ الخط -
غمس نوري يده في زُّنَّاري، ويعني غمسُ اليد فيه طلباً للجوار والنجدة، ويعني: أنا في عرضك، إذا لم تنجدني فسأحلُّ زُّنَّارك، وتظهر عورتك، وقال: خال.. اشرح لصديقتي ماري معنى رفع المعنويات والروح المعنوية.
كانت ماري قد أبرمت عهداً ودياً مع تلميذها نوري: هي تعلمِّه الألمانية، وهو يعلِّمها العربية. ويبدو أنه خدعها، فهو لا يعرف لا العربية ولا الكردية، إنه يعرف أمراً واحداً فقط تعرفه الكائنات كلها، وهو السعي إلى غريزتي ما فوق الزُّنّار وما تحته، والحق أنه يحبُّ الأناشيد الحماسية الوطنية. شرحت لها المسألة من إعلام النظامين، السوري والمصري. الدولة في سورية محطّمة، وفي مصر تتحطم، وكلاهما يجتهد في إظهار البلد كأنه على ظهر سفينة الحب. وشرحت لها، بالإنكليزية، أنَّ السيارة، عندما تنام إحدى عجلاتها، يصلحها السائق، وقد نامت جميع عجلات الدولة، وهي تعمل حاليا مثل عربةٍ على الحديدة، يجرّها بغل، والبغل وراء العربة، وأحياناً يساعد البغلَ بلبلٌ في رفع المعنويات على الشاشة، بصفة محلل سياسي، أو قد ترفع بفيلم، مثال ذلك فيلمٌ عن السياحة في سورية، وهي تتحطم بالقنابل العنقودية والفراغية والارتجاجية.
وقلت للصبية الألمانية الشقراء التي كانت تلبس بنطلوناً ممزّقاً، كأنما نهشه ألف كلب مسعور، فكان ضوء لحمها الأبيض المتوسط يتدفّق من كل فتحةٍ، فتهبط معنوياتي إلى الصفر، تحت الأنقاض: إننا عشنا في دول توصف إعلامياً بأنها نامية، وكنا نتندّر عليها، فنصفها بالنائمة بتصحيفٍ بسيط، والتصحيف استبدال حرفٍ بحرف، وكانت الدولة الموقّرة، في العقود الخالية، تحرص على رفع المعنويات بالأناشيد الحماسية، والمسلسلات الوطنية أو الخيالية أو التاريخية، فالمهم تهجير العربي من واقعه إلى منازح سعيدة وبعيدة. وذكرت لها أنَّ جارنا في الحي، وهو محام، ارتقى السطح وأطلق رشقةً من الرصاص، عندما رأى رأفت الهجان يرسل أول رسالة "إس إم إس" من تل أبيب، فضحكت ماري عن لؤلؤٍ، وعضّت على العنّاب بالبرد، ثم قبّلها نوري، وهو يقول لها: ما رأيك "بشرحي"؟ فجاوبته بأن منحته قبلة وتركت لي سمعها.
ومن حُسن حظّ البغال التي تجرُّ العربة أنَّ الشعوب العربية مؤمنةٌ بالله الواحد القهار، فعاشت في ظلِّ طغاتها أحقاباً، مستعينةً بالطرائف، فهي أداة انتقام عنقودية وفراغية لفظية، لا تسمن من جوع، لكن تربط على البطن حجرة.
سقط في أثناء الشرح كيسٌ من فوق النضد، فتبعثرت العقاقير والأدوية؛ حبوبٌ ومَراهم ولصقاتُ جروح وحقن.. فصفّرَ نوري، وهي تصفيرة لجريح شهد مائة زحفٍ أو زهاءها، وما في جسمه موضع شبرٍ إلا وفيه ضربة ٌأو طعنةٌ أو رميةٌ بسهم، مع أنّ صاحب الأدوية لم يخضْ معركةً واحدة، ولم يحمل سلاحاً قط، سوى سكين المطبخ، وعاش في حياته كما يعيش البعير، فلا نامت عجلات الدولة.
وسأل عن الأدوية واحدةً واحدةً، فكنت أجيبه: هذا الدواء لخفض الضغط، وهذا: لرفع الضغط، وهذا لإذابة الحصى في المثانة، وهذا لإذابة الصخور الدهنية في الدم.
ـ وهذا المرهم خال؟ فهمست في أذنه بغرض المرهم فضحك.
ـ من أين حصلت كل هذه الأمراض خال، فأنت ما شاء الله مثل الحصان؟
قلت: من يعشْ سنةً تحت ظلِّ هذا النظام، كأنه عاش ثمانين حولاً في الحرب، يا سبعي.
انتبه سبعي إلى حبّةٍ، حاول الحصان أن يخفيها وراء قدم النضد، فمدَّ يده إليها مثل مفتش بوليسي، وقد ضبط المتهم بالجرم المشهود. ابتسم ابتسامة ليث المتنبي: ما هذه خال؟
فضحني أمام الصبية، وحلَّ زناري، قاتله الله، ذكّرني بحكاية الفرزدق مع الغلام، فبلعت غصتي وسكتُّ، والسكوت من ذهب، وأحياناً من حديدٍ محمَّى.
فقال: أنت وحيد وحصور خال، فأين تذهب بمفعول هذه الحبة الملعونة؟
قلت متلعثماً: ذكرى وأطلال... ورفع معنويات.
ثم خرج الحصان هائماً على وجهه، وقد صارت معنوياته وعجلات روحه كلها على الأرض، ويدفعها من الخلف.
دلالات
أحمد عمر
أحمد عمر
أحمد عمر
كائن يظنُّ أن أصله طير، من برج الميزان حسب التقديرات وطلاسم الكفّ ووحل الفنجان.. في بكرة الصبا أوعشية الشباب، انتبه إلى أنّ كفة الميزان مثقوبة، وأنّ فريق شطرنج الحكومة "أصحاب فيل"، وأنّ فريق الشعب أعزل، ولم يكن لديه سوى القلم الذي به أقسم" فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا..."
أحمد عمر