الكوارث في منطق الدولة الشركة
بعد أن تسبّب الإعصار "دانيال" في مصرع وتشريد آلاف من سكان ليبيا، وقضى على مدينة درنة، وأخرج زلزال المغرب عشرات الآلاف من ديارهم وقتل منهم كثيرين، من المشروع التساؤل عن حقيقة الدولة وطبيعتها، ليس فقط في العالم العربي المنكوب دائماً، وإنما أيضاً في دول كثيرة في العالم الثالث، حيث تكرار الفشل الذريع في إدارة الأزمات الطارئة والكوارث الطبيعية أمر مفجع لكنه معتاد. ومن ثم لا مجال للتساؤل عما فعلته الدول التي كانت تعلم مسبقاً بقدوم "دانيال"، أو التي تضربها السيول أو الحرائق، بل عما تقوم به الدول أو السلطة بشكل عام وطوال الوقت، فالدور الأساس للدولة، والأصل في فلسفة وجودها، حماية سكّانها وتأمين حيواتهم والحفاظ على حدٍّ مناسب من مقوّمات المعيشة.
كان الدمار الذي تسبّب به الإعصار "دانيال" متوقعاً، إذ مرّ قبل ليبيا بكل من تركيا واليونان. كما أن زلزال المغرب ليس فريداً من نوعه، فالدراسات الجيولوجية الحديثة تؤكّد تغير خريطة أحزمة الزلازل في العالم، وأن دولاً جديدة أصبحت عُرضة للزلازل بدرجاتٍ متفاوتة. وفي كل الدول يوجد ما تُعرف بخطط لإدارة الأزمات والكوارث المحتملة، وتضع حكومات دول العالم المتحضر الأزمات والكوارث الطبيعية في مقدّمة تلك الاحتمالات، بينما السلطات الغاشمة في دول العالم الثالث، وكثير منها مغتصبٌ للحكم أصلاً، تضع خططاً مُحكَمة وإجراءات مدروسة بدقّة لمواجهة أي أزمة أو خطر، ولو ضعيف، على وجودها في الحكم. بل يعقد بعضُها اتفاقاتٍ وتفاهماتٍ مع أطراف خارجية للتدخل والحماية ضد أي خطر على بقاء تلك السلطة في الحكم. أما المواطنون المحكومون، فليسوا أولوية على قائمة الاهتمامات الرسمية، ما داموا لا يشكّلون تهديداً لاستقرار السلطة واستمرارها في الحكم.
هذه العلاقة بعيدة، بل مناقضة لمفهوم الدولة الحقيقية، فالدولة كيانٌ أساسه الشعب، وفيه السلطة خادمة للشعب، وتعمل لديه ولصالحه. أما هذه الحكومات والأنظمة التي لا تبحث سوى عن بقائها وتكريس مكاسبها المادية والسياسية، فتعتبر الدولة مشروعاً خاصاً وملكية مطلقة لها، والمواطنين مجرّد أُجراء يعملون بأقواتهم، ولا حقوق لهم، بل هم المدينون للسلطة بحيواتهم. تماماً مثل أي شركة خاصة أو كيان رأسمالي، الربح غايته والعاملون فيه مجرّد جزء من أدوات الإنتاج. وبهذا المنطق، يمكن تفسير لماذا تبقى الدول المتخلّفة على تخلفها، بل تزداد تخلفاً. ويمكن فهم نظرة أولئك الحكام إلى محكوميهم. وبالطبع، يصبح مفهوماً لماذا تظلّ تلك الدول عاجزة وضعيفة وهشّة اقتصادياً، وتعاني من قصور هيكلي في البنية التحتية التي تنهار سريعاً أمام أول اختبار. وبالطبع، لا مجال للاهتمام بالخدمات العامة الأساسية الجوهرية، كالتعليم والصحة، حيث لا قيمة أصلاً للإنسان المستفيد منها، بل ربما من الأفضل في نظر السلطة أن يكون أمياً مُعتلاً، فلا يطالب بحق ولا يدفع ضرراً. وقبل ذلك كله، ليس من الوارد بحال أن تتوفر أي قدراتٍ لوجستية لمواجهة أي طوارئ أو كوارث. فقط خطط وإجراءات نظرية على الورق، بلا ميزانياتٍ أو إمكاناتٍ وأدوات لتحويلها إلى تحرّك فعلي عند الضرورة.
مقابل ذلك كله، يجرى الإنفاق بسخاء على أدوات السيطرة ومقتضيات البقاء في السلطة من أجهزة ومؤسّسات وخطط أمنية، إضافة إلى القوة المسلحة في حدود ما يضمن استمرار السلطة وتمكينها من البطش بالشعب، وليس بالضرورة مواجهة التهديدات الخارجية.
هي ليست دولا، إذاً، وإنما شركات أو كيانات خاصة يملكها من يملك السلطة. أما الحوادث الكارثية، زلزالاً كان أو إعصاراً اسمه "دانيال"، فلا تُقلق الحكام في شيء، حيث مخاطرها محصورة في الشعب. ولا تمسّ بقاء أصحاب تلك الشركة التي تحمل اسم "دولة"، ولا سيادتهم وسيطرتهم.