لا خطر سورياً على إسرائيل
فور هروب بشّار الأسد وسقوط نظامه، سارعت إسرائيل إلى احتلال مناطق في سورية، لتضيفها إلى الاحتلال المستمرّ للجولان منذ نحو ستة عقود. واستغلّت فراغ القوة وهشاشة المؤسّسات العسكرية والأمنية السورية في ضرب معظم القدرات العسكرية والأسلحة السورية وتدميرها. وفقاً للتصريحات الإسرائيلية الرسمية، تخشى تلّ أبيب من وقوع الأسلحة السورية بين أيدي "الإرهابيين" حسب وصفها. من دون تحديدٍ أو إشارةٍ إلى هُويَّة هؤلاء أو طبيعتهم. رغم أن السلطة الجديدة في سورية، بقيادة أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني)، حرصت على بث إشارات طمأنة صريحة لإسرائيل، بل صرّح الشرع بأن بلاده في وضعها الجديد ليست في وارد الحرب أو الدخول في مواجهة مع إسرائيل، ولم يُخفِ أن هذا الموقف نتاج حالة الضعف التي تمرّ بها سورية في المستويات كلّها.
في حال تغيُّر ذلك الوضع باتجاه إيجابي، وامتلكت دمشق مقوّمات النهوض وأدوات للقوة، فقد يتبدل الموقف والتوجّه الرسمي بشأن إسرائيل، خصوصاً أن النظام الجديد في سورية سيواجَه حينئذ بمطالبات قوية ومتعدّدة المصادر لاستعادة الجولان، وغيرها من أراضٍ احتلّتها إسرائيل في الأيّام الأولى من حكم هذا النظام الجديد. فضلاً بالطبع عن أن سلطة الجولاني مُحمّلة أساساً بشعارات "محاربة اليهود" واستنقاذ المقدّسات في فلسطين وغيرها من ذخائر المرجعية الدينية لهيئة تحرير الشام، ومن قبلها جبهة النصرة، فضلاً عن "القاعدة". لكن ذلك كلّه لا يعني بالمرّة أن سورية الجديدة أخطر على إسرائيل ممّا كانت في عهد بشّار الأسد، فإسرائيل لم تكن يوماً مطمئنّةً إلى جبهتها الشمالية، كما هي اليوم. وأيّ هواجس إسرائيلية بشأن أسلحة سورية "القديمة" أو التوجّهات الفكرية للسلطة الجديدة، تتعلّق أساساً بإدراك تلّ أبيب أن الوضع القائم في سورية ليس مضموناً استمراره في المدى المتوسّط، فكان منطقياً أن تسارع إسرائيل وتنهي وجود تلك الأسلحة، بدلاً من العمل لاحقاً على منع أيّ مجموعة أو طرف داخل سورية من حيازة تلك الأسلحة واستخدامها ضدّ إسرائيل، خصوصاً أن سلطة الشرع، وسيطرة هيئة تحرير الشام، لا تشملان الأراضي السورية كلّها. والأكثر أهميةً أن إحكام السيطرة سيتطلّب، على الأرجح، مواجهات، ربّما عنيفة، مع مجموعات مسلّحة أخرى متناثرة في بعض المناطق السورية، بدءاً بقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، مروراً بالمليشيات التابعة لإيران، وانتهاءً ببقايا "داعش". وفي ذلك الصدام والانقسام المحتمل مصلحة مباشرة وتعزيز لمقومات رؤية إسرائيل لأمنها من جهة سورية.
في رؤية إسرائيل، تأمين جبهة سورية يحدث في حالتَين: أولاهما أن تكون سورية موحّدة تحت سلطة واحدة، لا تناصب تلّ أبيب عداءً فعلياً، وتتجنّب المواجهة معها (كما كان حال بشّار وأبيه). وبغضّ النظر عن الإشارات الصادرة من الشرع وغيره من مسؤولي السلطة الجديدة في سورية، ليس متوقّعاً الدخول في صدام مع إسرائيل قريباً، فالانشغال بإعادة الإعمار واستنهاض سورية، دولةً ومجتمعاً، كفيل باستهلاك قدر هائل من موارد غير متاحة حالياً، واستغراق زمن ليس بالقصير، فضلاً عن الارتباطات الخارجية، وما تفرضه من قيود والتزامات، سواء مباشرة تجاه تركيا أو غير المباشرة مع الولايات المتحدة. أمّا الحالة الثانية فهي توزّع السلطة وسيطرة عدة قوى متنافرة ومتناحرة على الأراضي السورية، فينشغل بعضها ببعض، وتُضعف كلّ منها الأخرى. وهذا السيناريو هو المثالي بالنسبة إلى إسرائيل، والأكثر أهميةً أنه أكثر واقعية وقابلية للتحقّق.
في المحصّلة، كانت إسرائيل آمنة مطمئنةً نصف قرن من حكم آل الأسد، وبعد زوال بشّار وحكمه لا تزال آمنةً، ولو إلى حين.