الكل ينتظرها بيقين: إنها الثورة
أكثر ما يدعو إلى الدهشة في مصر أن السلطة تبدو في منتهى الثقة في أن الشعب المصري صار جثّة هامدة، لا حراك متوقعًا منه، وليس ثمّة ما يدعو إلى وضعه في الحسبان، حين تهمّ بتشغيل ماكينات الجباية والاستبداد بكامل طاقتها.
في الضفة المقابلة من بحيرة الدهشة، يبدو الشعب المصري، بجميع أطيافه، معارضين ومؤيدين، متململين ومنسجمين، على يقينٍ بأن ثمّة شيئًا كبيرًا لابد أن يحدُث، وأن فيضانًا سياسيًا واجتماعيًا قادمًا لا محالة.
لا تغيب مفردة "الثورة" عن الحوارات الهامسة، إن دارت، سواء عند الذين معها، أو الذين ضدها، فالكل يترقبها، وهو مدركٌ أنها آتية، سواء الغالبية الكاسحة، الساكنة، التي تشبعت بأوجاع السلطة، أو الأقلية الصغيرة التي تعيش في كنف الطغيان والإستبداد.
الخلاف فقط حول متى، وكيف .. أما عن "لماذا "، فالجميع يعرف الإجابة، بالنظر إلى وصول منسوب الاحتقان إلى حدٍّ ينبئ بأنه لا مفرّ من لحظةٍ تشبه لحظة تمرّد النهر على كل السدود والحواجز، حين لا يبقى لمياه الأمطار والسيول متسع. بإيجاز، تعيش السلطة خريفًا مستمرًا، فيما لا يغيب الحلم بالربيع عن مخيلة المواطن، طوال الوقت، حتى وإن بدا أنه غير مهتم.
يتلفت المصريون حولهم هذه الأيام، فيجدون السودان الشقيق يغرق في فيضان النيل، الذي يمضي في طريقه إلى الأراضي المصرية، محتشدًا بالهدير، مزمجرًا، ولو بدرجةٍ أقل مما شهدته المدن والقرى السودانية، فيضربون كفًا بكفٍ: أليس هذا هو النيل الذي قالوا لنا إن سد النهضة أصابه بالهزال، فأوشك على الشلل والعجز الكلي أو الجزئي، بحيث لن يكون قادرًا على الوصول إلينا؟
هكذا هي الثورة أيضًا، مثل النيل، لا تخضع لحسابات الحكام، ولا تتحكّم في منسوبها عوادم الخطاب الإعلامي المتواطئ مع الطغيان السياسي، فتكون النتيجة أن مصر تشهد حالة مماثلة لتلك التي وصفتها بها قبل ثورة يناير، تبدو معها كأنها قطعة من الإسفنج، تشرّبت على فترات كمياتٍ كبيرة من الكيروسين، إذا ما اشتعل بجانبها عود ثقاب واحد، فما يشبه البركان سوف يثور.
إنسانيًا واجتماعيًا، تشبعت مصر بالأوجاع والآلام إلى حدود مرحلة "ما لجرٍح بميتٍ إيلام"، إذ صار القتل المنهجي البطيء روتينًا يوميًا يمارسه جلادون صغار، بأمر الجلاد الأكبر ولمصلحته، فيصير موت الضحايا طقسًا يوميًا يشاهده الناس بتفاصيله، كما جرى من الطبيب والسياسي، عصام العريان، ثم مع غيره من السجناء غير المعروفين، وأخيرًا مع أستاذ الطب النفسي، عمرو أبو خليل، الذي اعتقل ظلمًا، وتم التنكيل به تجبّرًا وغطرسة، وحُرم من العلاج إمعانًا في التنكيل، والكيد لشقيقه الناشط الحقوقي المعارض، لتنتهي اللعبة المتكرّرة ببيان للسلطات يقول "الوفاة طبيعية". نعم هي بالفعل طبيعية جدًا، بالنظر إلى ملابسات الاعتقال والسجن والتعذيب والحرمان من العلاج، فكيف لا تكون الوفاة طبيعيةً ومنطقية للغاية؟
اجتماعيًا، ومن واقع الأرقام الرسمية، تشنّ سلطة عبد الفتاح السيسي حربًا حقيقية ضد أصحاب نحو %85 من الوحدات العقارية في البلاد، ففي جلسةٍ للجنة الإسكان بما يسمى برلمان السيسي، قبل أكثر من عامين، قال رئيس اللجنة إن نصف الثروة العقارية في مصر مخالفة، من دون حساب مخالفات البناء على أراضٍ زراعية، الأمر الذي يقفز بحجم المستهدف بالإزالة والإبادة، لو أضفنا المقام على أرضٍ زراعية، إن لم يتم التصالح بالغرامات، إلى ما يتجاوز الثمانين بالمائة، بحسب تقديرات متخصصين في الإسكان.
هذه الشريحة الهائلة من الجمهور في مرمى نيران، وتحت جرافات السلطة الآن، وسط حالةٍ من الصراخ الجمعي من آثار الحرب الدائرة، والتي تتساقط فيها أبنية المساكن والمساجد بإيقاع يومي مخيف.
على بعد ثلاثة أيام اندلاع ثورة الخامس والعشرين من يناير/ كانون ثاني 2011 تحدثت عن "جراكن الكيروسين التي تحكم مصر" وتقودها إلى الحريق بكل مكوناته، الاجتماعية والطائفية والسياسية.. وما نحن بصدده الآن يجعل مصر، كما وصفتها قبل أكثر من عام، تبدو وكأنها محكومةٌ بمجموعة من البراميل المتفجّرة، تستعجل خراباً محمولاً يسير على قدمين، الأولى طائفية، والثانية اجتماعية، فيما بترت القدم السياسية، بفعل غرغرينا أصابت السياسة في مقتل .
والحاصل أن النظام لا يزال على عدائه العنصري البغيض ضد القطاعات المطحونة في الشعب المصري، ويرى فيها أوراماً سرطانيةً تهدّد "التنمية الكاذبة"، ويجب استئصالها، الأمر الذي يفرز مناخاً معبئًا بكل عوامل الانفجار، وبالأخص مع تنامي النزعة الفاشية المسلطة المواطن المصري، ما يولّد لديه شعوراً بأن وطنه ينكره، ولا يريده.