الكتب والصنعة والرخام
هل أهدي كلماتي لفتحي رضوان الذي قادني إلى "فم الخليج" في زمن المماليك، أم إلى أحمد خالد وساعته الجوفيال، وأنا حتى لا اشتريتُ أرضا واسعة وسمّيتها "الشيخ سليم"، وبدأت بزراعة الأسماك أولا ثم أنزلت المراكب، وتركت أمر العزف والرقص والغزل لأهل الصنعة من قدّامى ما قبل شارع محمد علي، أيام كانت تمشي المراكب سكرانة من فم الخليج، وتصبّ سكرانة في "بركة الرطلي"، بأشرعتها القديمة التي هلكت في موانئ البلدان بعد كل حرب، أو أغلقت شواني القمح وفرغتُ بعد أي هزيمةٍ أو أغلقت تماما بعد ما جارت العمارات العالية على أرض الوسايا التي كان يمرح فيها الخيل، ولا لاطفت مئات الأوز وهو عائمٌ قبل الغروب، ولا جعلتُه يتلكأ سعيدا فوق زرقة الماء، حتى يصل إلى ما قبل بركة الرطلي، ولا أطلقتُ من فوّهة المدفع بالقرب من القلعة الطلقات ناحية جبل المقطّم، فانتفض بعض الحمام فوق تكايا الدراويش في المقابر المجاورة، ولا بكى منّي أي درويش، بعد ما قلّت الجراية عن التكايا بوشاية قائد الجند.
الا أن الأوز هناك ما زال يصيح فرحان في الكتب، حتى وإن كان ما زال يسمع الطلقات في المخطوطات الباهته بجوار الهوامش التي تركها التلاميذ أو عتاة المحقّقين في المخطوطات، هل كانت المدافع تطلق ساعتها في أيام عيد، حينما غنّى البهاليل من وراء المحمل، وبعضُهم بكى، أو حينما امتلأت التكايا بعد غبشة منتصف الليل. بالسكر الصراح، سكر ما هو بالسكر ولا بالضياع رغم ضياع أي أمل.
كانت اللحوم ساعتها تقطع تحت القلعة فوق "الأورمات"، ويُشعل خدم الدراويش النيران تحت الحلل النحاس الواسعة، هل هو ليلٌ هذا، أم هو فجرٌ أو ما قبله بساعاتٍ، ولكن الدراويش خانت الرؤية، علّه كان الشفق. فهل أتى الشيخ سليم إلى المكان من فلسطين أم من الحجاز أم من بدو سيناء أم من المغرب، وكيف كان يأتيه "الليف" إلى الدكان، وكيف علّم تلك البنت المسكينة الصنعة، حرفة الخوص، وصنع السلال، ولماذا تذهب الأماكن القديمة، وتظل سيرتها باقية تتراقص في الكتب؟
تكيّة درويش في "باب اللوق" مزنوقة في آخر شارع مقطوع في عابدين، علّها كانت لعابد كسول كره الكتّاب وفرّ من أمام مطرقة الأب الذي كان قاسيا ويعمل في شارع النحّاسين، أو علّه فرّ هاربا من قسوة المعيشة في الصعيد بعد قحطٍ أو ثأرٍ ومات وحيدا في هذا الزقاق.
الأماكن القديمة التي نشمّها من الكتب، فنسأل عن الناس الذين نشم أرواحهم منها، والصنعة، وكيف كانت على أيامهم بضحكها وأدواتها وشكل أدواتها، وأين أصحابها المساكين، وأين دكاكينهم، وبوابات دكاكينهم القديمة التي تهالكت من قرون.
غناء كان هنا في فم الخليج، أيام كان للأمراء دولة، وللشمشرجية أيضا دولة أخرى خفيّة في طياتها أو ظلالها، أو تحت بطانتها. وللغناء أيضا دولة ساهرة ليلا، ظلت أطيافُها باقية حتى رحيل الست منيرة المهدية، بعد ما انعزلت في عوامتها وقد نسيها العالم والعمد والباشوات والوزراء السابقون ونسوا بحّة حنجرتها في ليل الصالات، فهل دام العالم لأحد، حتى الرّخام يتم تكسيره وتجديده في واجهات المحلات والبرلمانات الناشئة ليلا، ويضحك العمّال وهم سهارى في لصق الرخام الجديد مع أغاني مطربة الميكروباص، بصوتها المجروح وحنجرتها الملتاعة.
يحدُث ذلك كله مثل جذع نخلةٍ قطعت من سنوات، وظل الجذع باقيا للضحك ونسيانها، جذع نخلة ما عادت ترمي البلح، وكنّا ننام تحتها ليلا أنا وأحمد أبو خالد، الذي مات في العراق شابّا، وترك عروسه بآثار الحنّاء، لأنه جرى إلى العراق كي يرتاح من تجارة القرب القديمة، ووفاء ابنته، الآن، ملأت الشارع عيالا بعد أن مات هو بالعراق، وهو أول من باع لي أول وآخر ساعة جوفيال في السبعينيات من القرن الماضي تحت تلك النخلة، ومات بعض أصدقاء أحمد أبو خالد بعده بسنواتٍ في الجبل في ورش الرخام.
الموت: ذلك الحصّاد، كيف يعمل بنباهة في شوارع النخل وسط الفقراء، وقد صاروا من كبار السن والعجزة، بعدما قلّت صناعة الرخام، وبدأ أولادهم وأحفادهم في السعي وراء أرزاقهم في الحديد الخردة والورق والبلاستيك، وظهرت عليهم الأمراض.
عيال النخل الذين داخوا في القرى فوق درّاجاتهم القديمة من أجل شراء "قربة لبن قديمة"، انتهى عمرها تماما، كي يصير جلدها حذاء قديما بأرخص الأسعار في السبعينيات من القرن الماضي أيام كنّا تلامذةً في الجامعة، ونرتدي في سعادة تلك الأحذية والساعات الجوفيال التي لم أعد ألحظها في أي معصم، بعد أن مات أحمد بالعراق من سنوات، وألمح الآن عيونه في عيون أحفاده بعد ما ملأوا الشوارع صخبا فوق درّاجاتهم القديمة المسروقة من الأسواق.