الكتابة بلغة الآخر
ما معنى أن تكتب بلغةٍ مختلفةٍ عن لغتك الأم؟ وهل سيبقى يُؤخذ عليك، ككاتب، أن تتبنّى لغة ثانية، تلك التي اخترتَ أن تأتي إليها لاجئا، منفيا، معذّبا، من بلاد أخرى لم تعد تقوى على العيش فيها، وثقافة أقلّ ما تفعله فيك أنها ترفضك، تقصيك، وتريد لك أن تمّحي، وتزول؟
نسبةٌ هائلةٌ من الكتّاب والأدباء العرب هاجروا أو أُجبروا على الهجرة ليعيشوا، وربما ليموتوا أيضا، خارج بلدانهم. عددُهم لا يُحصى، وقد يكون أزيد بكثير من أولئك الذين اختاروا أو أُجبروا على البقاء حيث هم، فهي إمّا حروب لا تنتهي أو أنظمة قمعية لا تحتمل حدّا أدنى من التعارض والاعتراض، وإمّا شظف عيش وضيق مساحة أو ربيع انقلب حرائق وبراكين... الأسباب عديدة والنهاية واحدة: غربة واغتراب ووجع لا ينتهي وحنين قاتل إلى المكان الأوّل، ومعركة متجدّدة للبقاء في الموقع الجديد، مع الإبقاء على إرث ماضٍ يتهاوى.
يتشبّث الكاتبُ المهاجرُ بخشبة خلاصِه، لُغتِه، فهي مركبه الصغير الذي يُبقيه حيّا وسط هبوب العواصف وتلاطم الأمواج، وهي جزيرته التي ستمكّنه من الاستمرار. إنها عالمه، هويّته التي يضيع من دونها وتعني له الكثير. أجل، لغته هي بطاقته التي تبقيه قادرا على الانخراط في الوجود، إنها محرّك الإبداع لديه، رايته، خبزه، موادّه الأولية، سلاحه الأخير. هذا ويمكن للكاتب العربي المقيم في الغربة أن يُطيل، إلى ما نهاية، في توصيف علاقته بثقافته، وخصوصا بلغته الأمّ، أن يتفنّن في وصف ثرائها، سعتها، حيويتها، وأن يمعن في توصيف محاسنها حدّ التبجيل، لكنّه لن يعترف أبدًا أنها، في الآن نفسه، صخرة سيزيف، صليبُه ودرب جلجلته الممتدّ إلى ما لا نهاية، قائمةُ كلّ التُّهم والنعوت السلبية، الحاجز الذي يُقيمه أمام عمله لكي لا يُستقبَل كما يليق به. أجل تمسّك الكاتب العربي بلغته هو ذاك السور المنيع الذي ينصبه من حوله، لكي يبقى ابن تلك البلاد المغبرّة، "الملعونة"، الغارقة في شقائها ودمائها، والمتّهمة بأنها أصل كل بلاء، بلايا الإرهاب والتخلّف والانغلاق على الذات وكراهية الآخر وكل أنواع التطرّف والانسداد.
ثمّ، فجأةً، وهو داخل مطهره ذاك، يسترق الكاتب العربيُّ المهاجرُ النظر إلى أترابه ممّن، لسبب أو لآخر، تبنّوا لغةَ الآخر، فيراهم وقد عبروا جسورَ الإقصاء وسوء الفهم، فولجوا نعيم تقبّلهم من الآخر وحيازة بركته، وقد تمّ الاعتراف بهم واتسّعت الساحةُ لأدبهم. تحضر هنا أسماء عديدة لكتّاب ومبدعين نقف لهم احتراما وإعجابا، ولسنا نقصد فحسب أولئك الذين شبّوا صغارا مشبعين بثقافات أخرى، أو تعلّموا لغةَ المستعمِر غصبا عنهم، من أمثال جورج شحادة وأمين معلوف وفينوس غاطا خوري وإدوارد سعيد، أو كاتب ياسين ومحمد ديب وآسيا جبار وأندريه شديد وألبير قصيري وجورج حنين وملتون حاطوم وطاهر بنجلون وليلى سليماني، وإنما أيضا أولئك الذين اختاروا لغة الآخر بوعي وعن سابق تصميم، من أمثال أنطون شمّاس ورفيق شامي وراوي حاج وجمال محجوب وهشام مطر وليلى أبو العلا وربيع علم الدين وأهداف سويف، إلخ...
لقد قرّر ميلان كونديرا ترك لغته التشيكية لصالح الفرنسية حين قاطع بلاده، فيما هجر فلاديمير نابوكوف لغته الروسية إلى الإنكليزية، والاثنان كانا قادريْن على الكتابة باللغتين بالبراعة نفسها، فلمَ يختار كاتبٌ ترك لغتِه الأمّ ليكتب بلغة أخرى؟ ألأنه يختار تبنّي لغة أكثر انتشارا وعالمية؟ أم لأنه يريد تسجيل قطيعته مع ما أورثته إياه البلاد الأولى من إقصاء ورفض؟ ومع ذلك، يبقى السؤال: لمَ لم يقرر أيٌّ من الكتّاب المتحدّرين من أصول عربية، في مختلف القارّات والثقافات، هجْر لغاتِ بلدانهم تلك، والعودة إلى لغة آبائهم وأجدادهم، وأعني هنا اعتماد اللّغة العربية لغة كتابة وإبداع؟
سؤال يُطرح.