الكتابة بأثر رجعي: نعم أقصدك يا عزيزي

24 اغسطس 2023

(محمد أوزجاي)

+ الخط -

"... أنتِ كتبتِني في مقالك الأخير... أعرف أنك قصدتِنيِ عندما تحدّثتِ عن معاناة ذلك الرجل وقلقه وارتباكه من وجع اللحظة وثقل الموقف وغرابة ما أصبح يجمعه بصديقه العزيز، وأعرف أنّك أغفلتِ بعض التفاصيل حتى لا يعرفني الآخرون من أصدقائنا المشتركين. وأفهم أنك لم تخبريني قبل الكتابة ولا بعدها، حتى لا أرفض أو أغضب، أو ربما أحاول تغيير رؤيتك المرتبكة بدورها انغماساً في التفاصيل الكثيرة، و... و...".
وأذهلني تعليق الرجل، القريب إلى روحي، على مقالي الذي أعدتُ نشره قبل مكالمته بدقائق. ثم شعرتُ بقليل من الحرج، وهو يمضي في الكلام واثقاً مما يقوله. لم يكن يسألني ولم يكن يحاول معرفة ردّة فعلي، لكنّه كان يخبرني فقط كما يبدو، فهو متأكّد مما يقول بعد أن وجد حكايته في عمق حكايتي، فقرّر أنّها هي ذاتها، وأتى يخبرني وحسب!
بدا الموقف قريباً جداً بالنسبة لي. لم أكن في البداية أعرف إن كان ذلك أزعجه أم أرضاه، قبل أن أستشعر قليلاً من حسّ الرضا في صوته الآتي تدفّقاً حميمياً عبر الهاتف، فلم تكن ملامح وجهه حاضرة أمامي لأرصد تعبيرها، ولأنّه كان ذا ذوقٍ رفيعٍ في تعامله معي دائماً، فلم أنتظر أن يرتفع أو ينخفض صوته فرحاً أو حزناً وهو يكلّمني في أي أمر. انتظرتُ حتى ينتهي لأستوعب موقفه، وأقرّر موقفي معه بدوري. 
حسناً... أنا لم أقصده أبداً عندما كتبت مقالي المعني، لكنّني لم أمانع بتبنّي وجهة نظره. وربما أعجبني أنّه فهم ذلك.
نعم، لقد أخبرني بحكايته المُغرية للكتابة، ذات يوم، ثم إنني فعلاً أعرفه إلى الدرجة التي أستطيع فيها تبنّي وجهة نظره في التفاصيل وفي الشرح والتبرير أيضاً، وأعرف حتى تفاصيل تلك الحكاية التي أربكته قليلاً في أيامه الأخيرة، وعرّضته لاختبار حقيقي أمام فاعلية علاقات الصداقة واشتراطاتها أيضاً، لكنني، ببساطةٍ، لم أكن أقصده في مقالي. لقد اكتشف هو أيضاً لاحقاً أنّ المقال قديم، وأنّني لسببٍ ما نشرتُه مجدّداً في حسابي بإحدى منصّات التواصل الاجتماعي. أما تاريخ نشره الأول فموثّق أمامه منذ البداية، لكنّه تجاهل بغير قصد منه ربما، للمزيد من التماهي معي في الكتابة ومع المقال في العمق. 
أعدتُ قراءة مقالي في ضوء حكايته التي أعيشها معه، لأوافقه الرأي. نعم. أنا كتبتُه بأثر رجعي. قلتُ له إنّني لم أقصدك بالتأكيد، عندما كتبت المقال كما ترى من التاريخ، لكن يبدو أنني فعلتها بشكلٍ أو بآخر وبلا تفسير! الآن فقط، يا عزيزي، أستطيع أن أقول لك إنك على حق، في ظنك الشفيف، رغماً عن أنف تاريخ الكتابة والنشر وتوثيقه. الكتابة قادرةٌ على العبور دائماً، وإن لم تستطع عبور الوقت والرؤى المنطقية، فلا ينبغي أن تكون كتابة. ألم تبني الكتابة بيوتَها المريحة تحت أشجار الخيال؟ ألم ترسِم دوربها على هامش الأحبار المسالة تحت سماواتٍ بعيدةٍ ملبّدة بغيوم لا تكاد تمطر إلّا بين السطور؟ 
نعم. كتاباتنا، في غالبها، مجرّد استشراف لرؤانا ومواقفنا وأفكارنا بتفاصيل جديدة. ولمَ لا؟ أليس هذا ما يجعلنا نتماهى غالباً مع ما نقرأ من قصص وروايات وقصائد ومقالات؟ ألسنا نجد أنفسنا في ما نحبّ أن نقرأه ولذلك نقرأه؟ ألسنا نبحث عن ذواتنا بين الكلمات ونشعر بخيبةٍ موجعةٍ كلما وصلنا إلى السطر الأخير من الرواية أو البيت الأخير من القصيدة من دون أن ننجح في الوصول إلى حقيقتنا الغائبة؟ 
هي الكتابة إذاً. التعبير عن أفكارنا التي نعرفها، والتي لسنا بعد متأكّدين من تحقّقها في مجالنا الزمني، ولذا فأنا أقصدك، يا عزيزي، في تلك المقالة التي كتبتها ربما قبل أن أعرفك!

CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.