القوات الموازية وتحطيم الدولة في السودان
أصبح وجود قوات عسكرية "موازية" أو خارج الهرمية العسكرية للجيش أو خارج سيطرة الدولة، من العلامات المميزة لزمننا الحالي في دول عربية عديدة. نجد هذا في لبنان (حزب الله) والعراق (الحشد الشعبي) واليمن (الحوثيين) والسودان (قوات الدعم السريع)، وليبيا (خليفة حفتر) وسورية (الدفاع الوطني والمليشيات الطائفية). من هذه القوات ما يسند السلطة القائمة، ومنها ما يصارع ضدها. فتكون القوات الموازية مع القوات الرسمية للدولة في حالة صراع منفلت، أو في حالة تعايش يستبطن الانفجار، مهما كان هذا التعايش راسخاً وحميماً كما كان الحال في سورية في ثمانينيات القرن الماضي بين قوات سرايا الدفاع، التابعة لرفعت الأسد، والجيش النظامي السوري. الخطير في هذه الظاهرة، التي تشكل إحدى أهم سمات فشل الدولة، أن تكون قوة التشكيلات العسكرية الموازية معادلة أو أعلى من قوة الجيش النظامي، الأمر الذي ينتج سلطتين متعايشتين، الأمر الذي يُبقى واقع البلاد ملغوماً، كما تبقى الإنجازات السياسية (في حال وجودها) معرّضة للانهيار في أي لحظة، كما هو الحال اليوم في السودان الذي كان قد قطع طريقاً لا بأس به نحو تأسيس حكومةٍ مدنيةٍ وإعادة الجيش إلى مجاله المهني الخاص، بعيداً عن الشأن السياسي.
حين تعجز الدولة عن استيعاب الطيف الواسع لمصالح الفئات والشرائح الاجتماعية الواقعة في مجالها السياسي، بسبب نقص عموميتها، كما هو الحال في الدول المذكورة، يصبح بروز مثل هذه القوات الموازية ممكناً، ويحتاج فقط إلى من يمتلك المصلحة والإمكانات المادية اللازمة. يمكن أن تتشكّل هذه القوات الموازية من أجل تحدّي الدولة أو مواجهتها، كما هو حال الحوثيين. ويمكن أن تتشكل من أجل مساندة الدولة، من خارجها، حين تعجز الدولة عن مواجهة احتجاجات مضادّة، كما هو الحال في سورية والسودان. كما يمكن أن تبرز القوات الموازية للتصدّي لمهمة "تحرير" قصّرت الدولة عن التصدّي لها، ثم تتحوّل إلى قوة موازية للدولة، كما هو الحال في لبنان. وقد تتشكّل القوات الموازية عقب تفكّك الدولة كما حصل في ليبيا. وفي كل الأحوال، تخسر الدولة المعنية، في الواقع، ما يميز الدولة من "احتكار العنف المشروع".
لافت أن تصدُر مذكّرة توقيف بحق الرئيس البشير، من دون أن تصدر مذكّرة مشابهة بحق حميدتي قائد قوات الجنجويد التي وثقت منظمات حقوق الإنسان الدولية جرائم كثيرة ارتكبتها في دارفور
إذا أمعنّا النظر في البلدان التي تستند السلطة فيها إلى قوات موازية نلاحظ مفارقة تقول إن الطغمة الحاكمة، من أجل احتفاظها باحتكار الحياة السياسية في مواجهة حركة احتجاج، يمكن أن تتخلّى عن احتكار القوة الشرعية، وأن تستعين بقوات "غير شرعية" تستثمر في عصبيات غير وطنية، طائفية في سورية، وقبلية وإثنية في السودان. الأمر الذي يمهّد، مع الزمن، لدمار الدولة.
على خلاف حركات التحرر الوطني والحركات الثورية المسلحة التي ملأت تاريخ القرن العشرين، لا تنطوي هذه التشكيلات العسكرية الموازية على مشروع سياسي محدّد، ولا تستمدّ قيمتها إلا من قوّتها المستمدّة غالباً من تبعية خارجية. ومن أهم ما يميّز هذه التشكيلات ويمنحها مجالاً حرّاً في الحركة هو افتراقها الواسع عن فكرة الدولة وما فيها من عمومية وطنية، فهذه التشكيلات لا تلتزم بقانون ولا باعتباراتٍ قيمية، وتجمعها عصبية وولاءات شخصية، الأمر الذي يجعلها، في مواجهة الاحتجاجات الداخلية، أكثر تماسكاً من الجيش الرسمي وأكثر شراسةً في القتال. هذا ما دفع الرئيس السوداني المخلوع، عمر البشير، إلى دعم مليشيات الجنجويد وتحويلها إلى "قوات الدعم السريع" في 2013، ثم نقل تابعيتها من جهاز الأمن والمخابرات إلى القوات المسلحة في 2017، مع احتفاظها باستقلالها الذاتي، وإدخالها إلى الخرطوم لتكون القوات الخاصة بحماية الرئيس. وهذا أيضاً ما دفع رئيس مجلس السيادة، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، حين كان لا يزال في تحالفٍ مع قوات الدعم السريع، إلى الاعتماد عليها في فضّ الاعتصام أمام مقر القيادة العامة للقوات المسلحة في الخرطوم (يونيو/ حزيران 2019)، الجريمة التي سوف يتردّد كثيرون من عناصر الجيش السوداني وكوادره في ارتكابها.
لا تنطوي التشكيلات العسكرية الموازية على مشروع سياسي محدّد، ولا تستمدّ قيمتها إلا من قوّتها المستمدّة غالباً من تبعية خارجية
بالمناسبة، من اللافت أن تصدُر مذكّرة توقيف بحق الرئيس البشير، من دون أن تصدر مذكّرة مشابهة بحق محمد دقلو (حميدتي) قائد قوات الجنجويد التي وثقت منظمات حقوق الإنسان الدولية، سيما تقرير هيومن رايتس ووتش الصادر في 2015، والمستند إلى شهادات من ناجين ومن شهود عيان ووثائق سرّية، جرائم كثيرة ارتكبتها في دارفور. هل يمكن رد ذلك إلى دوره في صد موجات اللجوء إلى أوروبا، حين تحوّلت مليشيا الجنجويد، بقرار من البشير إلى "قوة حرس الحدود"، وجرى تعيين حميدتي رئيساً لها، قبل أن تتحوّل تالياً إلى قوات الدعم السريع؟
بعد أن اندلع القتال بين الطرفين، صار مستقبل السودان في المجهول، وبات البناء السياسي السلمي الذي تحقّق في السودان بعد إبريل/ نيسان 2019، في مهبّ الريح. لن يكون مفاجئاً أن تتمكّن قوات الدعم السريع، استناداً إلى تاريخها الإجرامي وعصبيتها الداخلية ودعمها الخارجي، من التغلب على الجيش السوداني، ثم الانقضاض على القوى المدنية التي يغازلها حميدتي اليوم لكسب جمهورها، ثم إدارة الدولة بمنطق "الجنجويد". ولكن حتى لو تمكّن الجيش من الانتصار، فإن قبضته العسكرية ستصبح أشدّ في وجه القوى المدنية، وسوف يميل أكثر باتجاه إسلامي لتعزيز تماسكه الداخلي. وأياً كان "المنتصر"، فإن قيمته الوحيدة ستكون في نجاحه، إذا نجح، أن يكون الوحش الذي يسيطر ليحمي الآخرين من الآخرين، فارغاً من أي قيمة سياسية أو مدنية. أما الطريق التفاوضي، الذي تعرض إسرائيل (يا للقلب الكبير!) أن تستضيفه، بوصفها صديقة الطرفين، فلا يبدو أنه قابلٌ للنجاح بعد أن أعلن الطرفان العداء المتبادل، وبعد أن سال الدم بينهما، ولم يعد ثمّة مكان للثقة. يبقى التدخّل الخارجي احتمالاً ضعيفاً ولكنه وارد، ما يرشّح السودان إلى أن يكون نسخةً مكرّرة عن سورية. ومن غير المستبعد، إذا عجز الطرفان العسكريان عن الحسم، وبعد أن بات تعايشهما مستحيلاً، أن يقتسما البلاد واقعياً، بانتظار ترسيم الواقع. وفي كل الأحوال، صحيحٌ إنه لا مساحة البلد، ولا موارده حتى، هما ما يحدّدان جودة مجاله السياسي وجودة عيش أهله، ولكن في الحالة السودانية، من الراجح أن التقسيم بالنسبة للسودانيين سوف يعني انكماشاً في البلد وفي المجال السياسي والعيش معاً.