القمّة الأفريقية... آفة الانقلابات معضلة دائمة

28 فبراير 2024

الرؤساء والمشاركون في قمة الاتحاد الأفريقي الـ37 في أديس أبابا (17/2/2024/فرانس برس)

+ الخط -

كان غياب ست دول عن قمة الاتحاد الأفريقي الـ37 في أديس أبابا، في 17 و18 فبراير/ شباط الجاري، لافتاً وثقيلاً، ليس بسبب مكانة تلك الدول وحسب، بل بسبب العامل المسبّب لغيابها، وهو الانقلابات التي شهدتها وجعلتها ترزح تحت حكم عسكر أطاحوا قادةً منتخبين. وإذ تُعدّ الانقلابات من أهم التحدّيات التي عادت لتواجه القارّة، فإنها تساهم في إبطاء عملية التنمية الضرورية والمتعثرة دائماً، وكذلك في عملية التكامل بين دول القارّة، والتي أدرك قادُتها أهمية هذا التكامل لتحقيق هدف التنمية الذي يشكّل غيابه حواجز وعقبات ستبقى تهدّد القارّة ما دام الاستقرار الأمني والاقتصادي مفقودين.

لم تشفَ القارّة الأفريقية يوماً من آفة الانقلابات؛ إذ شهدت دولها منذ فجر استقلالها عن الاستعمار الغربي، أوائل خمسينيات القرن الماضي أكثر من مئتي انقلاب ومحاولة انقلاب. لذلك باتت هذه الانقلابات وما تفرزه من دكتاتوريات وحكم عسكري، وما ينتج عنها من حروبٍ وصراعاتٍ وأزماتٍ إنسانية ولجوء، وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وتطهير عرقي وفصل عنصري وتخلف وفقر، صفاتٍ دائمة توصَم بها القارّة وحكامها. ومن هنا، كان من الضروري إيجاد سُبل للحدّ من تلك الآفة واستئصالها، فكان منها تعليق عضوية الدولة التي تشهد انقلاباً في مؤسّسات الاتحاد الأفريقي، والتهديد بالتدخل العسكري الجماعي فيها لإعادة الشرعية إلى الحكم. ولكن لم يكن لهذا الإجراء ذلك التأثير المأمول، لأن الانقلابيين، من جنرالات وبطانة، عادة ما يكونون مدفوعين من قوى خارجية توفّر لهم الغطاء، وتعوّض لهم الدعم والشرعية التي كانت تتوفّر عبر علاقاتهم الطبيعية مع إخوتهم في القارّة، بغضّ النظر عما يصيب البلاد من مشكلات وينعكس على مواطنيها من بؤس ومعاناة الاستبداد.

وكان لافتاً أن القمة الأفريقية آثرت عدم الخوض في النقاش المعمّق في الانقلابات، خصوصاً التي وقعت في السنوات الأخيرة في الغابون والنيجر ومالي وغينيا والسودان وبوركينا فاسو، وهي التي عُلقت عضويتها جميعها في مؤسّسات الاتحاد. وبدلاً من مناقشتها، قال رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي، موسى فكي، إن تجدّد الانقلابات يعد أحد مصادر القلق الكبيرة بالنسبة للأفارقة. وربما آثر القادة المجتمعون ذلك النأي، بسبب تسليمهم بالتأثير شبه المعدوم لمؤسّسات الاتحاد الأفريقي ودوله على الدول التي تشهد انقلابات، وانعدام قدرتها على فرض العودة إلى العمل بالدستور والحكم المدني فيها.

 الانقلابات والفساد معا، شكلا مانعاً أمام تقدُّم بلدان القارّة ودخولها في حقبة الدولة المدنية، دولة القانون والحرّيات والحقوق التي تضمن وحدَها الاستقرار الأمني وتحقيق التنمية

قبل سنوات، رأى جنرالات بعض الدول في إعادة عضوية مصر إلى الاتحاد الأفريقي انتهاكاً واضحاً، وربما تقويضاً، لأحد أهم البنود التي تشكّل عماد هذا الاتحاد، والتي أدرجت فيه لمنع هذه الآفة من القارّة، فكان هذا التهاون دافعاً لهم إلى تنفيذ انقلابات. وبينما شابَ موضوع إعادة عضوية مصر إلى الاتحاد شبهة فساد؛ إذ جاء على شكل صفقةٍ حين أبدت بموجبها إثيوبيا استعدادها لإعادة مصر مقابل موافقة الأخيرة إثيوبيا على بناء سد النهضة، كانت تلك الصفقة بمثابة ترويج الآفة الأخرى؛ الفساد. وهي آفة عانت منها القارّة طويلاً، وشكَّلت هي والانقلابات مانعاً أمام تقدُّم بلدان القارّة ودخولها في حقبة الدولة المدنية، دولة القانون والحرّيات والحقوق التي تضمن وحدَها الاستقرار الأمني وتحقيق التنمية.

وفي إطار التهاون مع الانقلابات، رفعت إيكواس (المجموعة الاقتصادية لدول غربي أفريقيا) قبل أيام، في 24 فبراير/ شباط الجاري، العقوبات الاقتصادية وحظر السفر التي فرضتها على النيجر ومالي وبوركينا فاسو، بعدما شهدت هذه الدول انقلاباتٍ في السنوات الأخيرة، وهي الدول التي انسحبت من المجموعة أواخر يناير/ كانون الثاني الماضي. ويُعدّ رفع العقوبات وحظر السفر أمراً لافتاً ومحيِّراً، نظراً إلى أن سبب الحظر ما يزال قائماً، وقد جاء بعد أشهر من تهديد المجموعة بالتدخّل العسكري لإعادة الرئيس المخلوع، محمد بازوم، إلى الحكم في النيجر بعد الانقلاب العسكري الذي أطاحه، أواخر يوليو/ تموز الماضي. وأعطى في إثره قادة دول المجموعة ورؤساء أركانها انقلابيي النيجر مهلة انتهت في 6 أغسطس/ آب الماضي، لإعادته وإلا ستتدخّل عسكرياً لفعل ذلك، إلا أن عوامل عديدة حالت دون ذلك التدخّل أهمها عدم التوافق داخل المجموعة على هذا الفعل، وازدياد شوكة الانقلابيين قوة. وتزداد الحيرة من خطوة "إيكواس" عندما نعلم أنها تدخَّلت عدة مرّات في غينيا بيساو وتوغو وساحل العاج ومالي وغامبيا لحلّ الأزمات الأمنية ووقف النزاعات المسلحة أو حتى وقف عمليات انقلابية واستثار غير قانوني بالسلطة.

لا يمكن النظر ببراءة إلى تهاون القوى الدولية، خصوصاً في الغرب، مع الانقلابات وقادتها الذين يفتعلون الصراعات والحروب الداخلية والبينية لتثبيت حكمهم

على الرغم من الآثار السلبية البادية على الدول التي تشهد انقلاباتٍ في المجالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأمنية، والتي تتفاقم يوماً بعد يوم، إلا أن عوامل استقرار الانقلابيين تزداد، وتتعاظم قدرتهم على التحكّم بمؤسّسات البلاد وبالمواطنين عبر القوة والقمع وفرض الاستبداد. وفي الوقت الذي تتراجع فيه اقتصاديات هذه البلدان، ووصولها إلى حد الانهيار، كما في تونس ومصر وغيرهما، تزداد الشرعية الدولية المسبوغة على قياداتها، على الرغم من انتهاكها حقوق الإنسان وفرضها حالة الطوارئ، وصياغتها دساتير على مقاساتها توفّر لها الاستمرار بالحكم إلى آجال مفتوحة.

إزاء هذا الواقع الشاذ في القارّة التي تحتاج الأمن والاستقرار من أجل التنمية، لا يمكن النظر ببراءة إلى تهاون القوى الدولية، خصوصاً في الغرب، مع الانقلابات وقادتها الذين يفتعلون الصراعات والحروب الداخلية والبينية لتثبيت حكمهم. مع العلم أن تلك القوى اعتادت أن تدين الانقلابات، لكن سرعان ما تعمل على تسويق قادتها بعد أن تضمن توقيع العقود الفاسدة معهم، للسيطرة على مقدّرات بلدانهم وثرواتها الباطنية. لكن من غير المعروف إلى متى ستبقى دول أفريقية كثيرة، ودول عربية، تعاني من الانقلابات والحكم الفردي، خصوصاً أن دولاً في أميركا اللاتينية، عانت طويلاً من الانقلابات وحكم العسكر الدموي، استطاعت الشفاء من هذه الآفة، وباتت تخطّ طريق تطوّرها الديمقراطي، على بعد أميال من واشنطن التي اعتادت تسويق الديكتاتوريات والاحتفاء بالطغاة.

46A94F74-0E6B-4FEC-BFDA-803FB7C9ADA6
مالك ونوس

كاتب ومترجم سوري، نشر ترجمات ومقالات في صحف ودوريات سورية ولبنانية وخليجية، نقل إلى العربية كتاب "غزة حافظوا على إنسانيتكم" للمتضامن الدولي فيتوريو أريغوني، وصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.