تأخُّر السياسي عن العسكري في معركة "ردع العدوان"

08 ديسمبر 2024
+ الخط -

قد يكون رموز الشقّ السياسي من المعارضة السورية أول من فوجئوا بعملية "ردع العدوان" التي نفذها الشق العسكري من المعارضة، والممثل بالفصائل التي اتخذت من إدلب مقرّاً لها طوال السنوات السبع السابقة. وتتعاظم المفاجأة لدى هؤلاء حين يستنتجون أن الهجوم على حلب وفق تلك الشاكلة، وبالنجاح الذي أحرزه، يتطلب سنواتٍ من التحضير، كانت فيها تلك الفصائل العسكرية قد نأت بنفسها عن المعارضة السياسية وتشكيلاتها من "ائتلاف" أو "هيئة تفاوض" وما تسمّى حكومة إنقاذ، وغيرها من المكونات السياسية التي تفرَّخت حتى لم يعد بالإمكان حصرها.

الآن وقد سجلت الفصائل العسكرية المعارضة النجاحات التي سجلتها بسيطرتها على ريف إدلب وحلب وريفها وحماة واتجاهها نحو السيطرة على حمص، تبدو المعارضة السياسية في موقف المُحرَج الذي غاب عن الساحة وعن جمهورها سنوات، حتى نسيها مع ما نسيه من مرارات، فهذا الجمهور كان يتوقع منها أن تكون ممثلة له في المنفى، تنقل آلامه وتطلعاته، وتسعى إلى تحسين ظروف شتاته، وتضع صيغاً لسورية الغد، وتسعى إلى تقصير طرق العودة، مع كل ما توفر لها من دعم وعلاقات ومتطلبات النجاح وعوامله الذي لم تكن تدرك أهميته، وذلك عبر تشكيل الجسم السياسي الذي يرفد الجسم العسكري بالقوة، غير أنها فشلت في تلك المهمّة.

تبدو المعارضة السياسية في موقف المُحرَج الذي غاب عن الساحة وعن جمهورها سنوات، حتى نسيها مع ما نسيه من مرارات

ولكن هل فات المعارضة السياسية السورية القطار، وباتت غير قادرة على الاضطلاع بالمهمّات المأمولة منها في هذه اللحظة التاريخية؟ ينبئ الحضور الضعيف لها بعد غياب طويل عن الساحات والإعلام والمواقف أن ذلك القطار قد فات، وأن إطلالات رموز لها على الإعلام أو في تسجيلات مصوّرة على مواقع التواصل الاجتماعي، بعد انطلاق عملية "ردع العدوان"، كان هدفه تسجيل حضور وحجز مقعد في القطار المؤدّي إلى دمشق، علهم يحوزون حصة من الكعكة الكبيرة التي يمكن أن تتاح إذا ما استمرّ ذلك القطار في السرعة التي انطلق بها قاطعاً السهوب والوديان، وصاعداً الجبال ليسيطر عليها ويُخرج قوات النظام منها متّخذاً إياها قواعد للانطلاق إلى مناطق أخرى.

يمكن القول إن المعارضة السياسية السورية لم تغِب عن الساحات والإعلام والاجتماعات الدولية ومراكز الضغط على مدى السنوات السابقة فحسب، بل خيّبت آمال جمهورها الذي كان ينتظر منها أن تكون الكيان السياسي صاحب الأذرع الممتدة في كل دول الشتات السوري الجديد، في دول الجوار، وبقية الدول العربية والأوروبية وحيث نزح ولجأ سوريون. وليس الهدف من وجوده أن يُبقي المسألة السورية حاضرة في التداول الدولي فحسب، بل أن يؤسّس لهؤلاء مؤسّسات تدرس أوضاعهم وتسهل أعمالهم وتدافع عنهم في دول اللجوء وأمام الهيئات الأوروبية. كما كان يتوقّع منها تشبيك تلك المؤسّسات للوصول إلى مرحلة تأسيس لوبي سوري للضغط على الحكومات الغربية وصنّاع القرار في المجتمع الدولي، من أجل جعل قضية الشعب السوري همّاً يجري التداول فيها وفق جداول هؤلاء، وضاغطة عليهم للوصول إلى حلٍّ كان يمكن له أن يختصر عذابات السوريين في مخيّمات اللجوء التي تعد أيامها بحسب أيام القيظ التي تمرّ عليها، وبحسب الأيام الممطرة والمثلجة وسرعة الرياح والسيول التي كانت تطيّر خيامهم وتتركهم في عراء الثلج والمطر والجوع.

لا يوجد في الأفق دليل على إمكان ظهور مكوّن سياسي آخر بديل عن المعارضة السياسية التي كنا نعرفها، ولم تعد تظهر نفسها لنا

من أجل تصحيح أخطاء المعارضة السياسية السورية، تداعى مجموعة من الكتاب والمفكرين والصحافيين من رموز الثورة السورية، أوائل سنة 2017، إلى صياغة نداءٍ مهم وفريد، كان "وجهة نظر نقدية لتصحيح مسارات الثورة"، كما جاء في النداء الذي حمل عنوان: "نداء إلى شعبنا السوري من أجل الحرية والكرامة والمواطنة والديمقراطية". وإذ انطلق من البديهية التي أوردها في متنه: "الثورات التي لا تنتقد ذاتها، وتصحّح مساراتها، تنحرف أو تضيع وتتبدّد طاقاتها وإنجازاتها"، يكون قد أقرَّ بحجم الخسارات التي مُنيت بها الثورة، خصوصاً بعد سيطرة النظام على حلب، وبعد تآمر قوى كبرى ودول عربية وبعض من دول الجوار من أجل تخريب الثورة، مُقرّاً بعوامل ذاتية "أدّت إلى مفاقمة عذابات شعبنا، وعوَّقت الثورة". كما استنتج أن المراهنات على الخارج والولاءات المتضاربة مقتلة ستؤدّي إلى الارتهان لأجنداته من جهة، ويؤدي إلى عدم التعويل على إمكانات الشعب ووضع أولوياته وحاجاته فوق كل اعتبار. وكانت هذه المقتلة الثانية عندما أهملت هذا الشعب والقدرات الكامنة التي يحوزها، والتي كانت كفيلة بجعل رموز الثورة السياسيين يستغنون عن دعم الخارج. أما المقتلة الثالثة فكانت التعويل على السلاح وحده لإسقاط النظام، وهنا الإقرار بأهمية العمل السياسي، عبر الأحزاب والوسائل الإعلامية الجامعة لجمهور المعارضة، أي بيئتها الحاضنة، والذي أُهمِلَ فأدّى إلى واقعٍ من الشلليات وتشظي الأصوات الإعلامية المتوالدة والمتكاثرة، والتي تُنادي في وديان خالية، ولا من مجيب.

مع دخول البلاد في استحقاقات جديدة وخطيرة تفرضها الوقائع الجديدة، وتلك التي يمكن أن تتأتّى عن الحضور القوي للشق للعسكري على الأرض وتوقعاته بإطاحة النظام، سيكون لزاماً للشقّ السياسي من المعارضة أن يكون على قدر تلك التحدّيات والاستحقاقات، فينقطع لإدارة المرحلة الانتقالية والشروع في التحضير للمرحلة التي تليها. غير أن الواقع يقول غير ذلك؛ إذ ما زالت المعارضة السياسية، بشكلها التقليدي المكرَّس، متأخّرة، ولم تنتقل إلى الصدارة في لحظة تاريخية لم تغتنمها بعد، أو حتى لحظة كتابة هذه السطور. لحظة تجبرها على التفرُّغ لإطلاق رؤية سياسية جديدة، أولها البناء على ما يصدُر عن ممثلي هيئة تحرير الشام، وأهميته في تطمين مكونات المجتمع السوري المتنوعة في ما يخص اليوم التالي، والعلاقات مع الخارج وإدارة البلاد. رؤية حول كيفية التعامل مع مكوّنات الدولة العميقة وتطهير الإدارات و"إزالة التمكين" (بحسب التعبير السوداني). وكذلك بشأن قضية العدالة الانتقالية ومسألة إعادة الإعمار، والمهم، وربما الأهم من ذلك كله، صياغة دستور عصري يضع في الاعتبار مسألة القطع من أزمنة الإلغاء والإقصاء وغياب العدالة القضائية والاجتماعية، وإلا فسيكون هنالك فراغ، لا يمكن لقادة تحرير الشام وحدهم ملؤه في وقتٍ لا يوجد في الأفق دليل على إمكان ظهور مكوّن سياسي آخر بديل عن المعارضة السياسية التي كنا نعرفها، ولم تعد تظهر نفسها لنا.

46A94F74-0E6B-4FEC-BFDA-803FB7C9ADA6
مالك ونوس

كاتب ومترجم سوري، نشر ترجمات ومقالات في صحف ودوريات سورية ولبنانية وخليجية، نقل إلى العربية كتاب "غزة حافظوا على إنسانيتكم" للمتضامن الدولي فيتوريو أريغوني، وصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.