حكومة فلسطينية جديدة... الخطوة الأسهل
جاء تشكيل الحكومة الفلسطينية الجديدة، برئاسة محمد مصطفى، في سياق الاستجابة للمطلب الأميركي، بإصلاح السلطة الوطنية وتجديدها، ولو من دون موافقة من قوى فلسطينية كثيرة، بما فيها حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، وفي وقتٍ بالغ التعقيد، تمرُّ به القضية الفلسطينية، والشعب الفلسطيني، ليس في قطاع غزّة المنكوب، فقط، بل في الضفة الغربية أيضاً. فقد منح الرئيس محمود عبّاس ثقته لحكومة مصطفى التي توصَف بأنها حكومة تكنوقراط، وسط مطالب فصائلية واسعة بتشكيل حكومة توافق وطني. على أن تتصدّى هذه الحكومة لمهمات صعبة، تبدأ بإعادة إعمار قطاع غزّة، وتوحيد المؤسّسات في الضفة الغربية وقطاع غزّة، والإصلاح، ومحاربة الفساد، والتحضير للانتخابات التشريعية والرئاسية.
والصحيح أن هذا الحدث يعيد طرح الأسئلة القديمة الجديدة؛ هل تشكيل الحكومة هو الأولوية، هل يُنتظَر منها الكثير، وهي تقوم على أرضية مختلّة، بل تكاد تكون معدومة، بافتقارها إلى شرعية حقيقية، لكونها تتجاهل غياب رأي الشعب الفلسطيني، غير الممثَّل، بأي مؤسّسة قائمة، فلا مجلس نيابيًّا، ولا رئيس يتمتَّع بصلاحية تمثيلية، بعد أن انتهت مدَّة رئاسته، منذ سنوات، ولا منظمّة تحرير فاعلة؛ فمَن مانحُها الشرعية؟
لا يزال نتنياهو يرفض عودة السلطة الفلسطينية إلى القطاع، ولا يزال يريد الاحتفاظ بدورٍ أمنيٍّ فيه، بحجَّة ضمان منْع عودة "حماس" إلى إدارة القطاع
هذا فضلًا عن التراجُع الكبير في مكانة السلطة في مناطق الضفة الغربية، بما فيها مناطق "أ"، التي للسلطة عليها السيطرة الأمنية، المفترَضة، وذلك بعد أن أمعنت حكومة الاحتلال، برئاسة بنيامين نتنياهو، في إضعافها، وتغييب وجودها، بالاقتحامات المكثَّفة، وعمليات الاغتيال، والتدمير، وسائر الأعمال الانتقامية، في داخل المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية، وفي الطرق التي تربط بينها، إذ حوَّلت حياة الفلسطينيين، وبالذات، بعد عملية طوفان الأقصى، في 7 أكتوبر، إلى جحيم. هذا بالتوازي مع الإضعاف المالي الذي جعل السلطة تعجز عن أداء الخدمات الصحية والتعليمية، وغيرها، إلا بشكل جزئي، متقطِّع؛ بسبب عجْز حكومة رئيس الحكومة السابق محمد اشتيّة عن دفع رواتب الموظفين، إلا بنسبٍ قليلة، لا تكفي الحاجات الأساسية. هذا فضلاً عن ارتفاع وتيرة الاستيطان، وتواصل اعتداءات المستوطنين. حدث هذا كله، ويحدث، رغمًا عن أميركا، في ما يبدو، وتبدي، وبرغم بعض الخطوات الأميركية الخجولة، لجهة فرْض عقوباتٍ على أعداد محدودة من المستوطنين، الثابت تورّطهم في أعمال إجرامية، وقعت، أو أغلبها، بعلم جيش الاحتلال، أو برعايته، وحمايته؛ فهل ستكون هذه الحكومة أكرمَ على الاحتلال من حكوماتٍ سبقتها؟
هذا الخنق والاستفراد الاحتلالي في الضفة الغربية والقدس. أما غزّة، فلا يزال مصيرها مجهولاً، مع امتناع نتنياهو عن توضيح ما ينويه لما يسمَّى اليوم التالي للحرب. ومع امتناعه عن ذلك، لا يزال يرفض عودة السلطة الفلسطينية إلى القطاع، ولا يزال يريد الاحتفاظ بدورٍ أمنيٍّ فيه، بحجَّة ضمان منْع عودة "حماس" إلى إدارة القطاع.
نتنياهو أكثر مَن يدرك خطورة الظهور بمظهر المتناقض مع واشنطن؛ لكونها الداعم الوحيد الباقي لإسرائيل، بعد أن ظهرت للعالم مبالغة دولة الاحتلال في الرد
لا يزال الوضع من جميع جوانبه مأزوماً، وغير ناضج، ولا تقتصر الأزمة على دوافع نتنياهو الشخصية، وسعيه لاستنقاذ مصيره السياسي، ولكن إلى غياب الاستقرار عن حكومته، ومهدِّدات تصدُّعها، أو حتى سقوطها، على خلفية أزمة تجنيد الحريديم، أو على وقْع الخلافات بشأن إدارة الحرب، ومتطلباتها التي بدأت تضغط لتلبية حاجات سكان القطاع الملحّة، (حيث قاربوا، أو وقعوا في المجاعة)، وفي مقدمها إيصال المساعدات الغذائية، بالتوازي مع تنامي الخلاف مع الإدارة الأميركية، على خلفية اجتياح رفح، في ظل تشكيك إدارة بايدن في قدرة، أو رغبة نتنياهو في استنقاذ المدنيين، الذين يزيد عددهم على المليون إنسان، هُجِّروا إلى رفح، نازحين، مكدَّسين، فيما أولويات نتنياهو، ومَن هم على يمينه، مِن قادة الأحزاب المتطرِّفة، إيتمار بن غفير وبتسليئيل سموتريتش، وغيرهما، هو الخروج بـ"نصر"، ولو على جثَّة غزّة، وأشلائها. فهذه الحكومة الاحتلالية، وحكومة الحرب، غير المتَّسقة، في العمق منها خلافاتٌ مصيرية عن طبيعة الدولة، بين الدين والعلمانية، صحيح أن الحرب أجَّلتها، لكنها تفعل فِعْلَها، عند كلِّ مفترق تقريباً، بين مَن يدرك أهمية الاحتفاظ بالدعم الأميركي، وفي مقدمتهم وزير الأمن، يوآف غالانت، والوزير في حكومة الحرب، بيني غانتس، وبين المستخفِّين بالموقف الأميركي، وأبرزهما بن غفير وسموتريتش، فيما لم يجد نتنياهو خيارًا غير الانحياز لهما، مكابِرًا، إذ هو أكثر مَن يدرك خطورة الظهور بمظهر المتناقض مع واشنطن؛ لكونها الداعم الوحيد الباقي لإسرائيل، بعد أن ظهرت للعالم مبالغة دولة الاحتلال في الرد، وتجاوزها الخطوط الحُمْر، الإنسانية والقانونية، الدولية. فإمَّا أن نتنياهو أصبح رهينة للمتطرِّفين من حلفائه في الحكومة، أو أن هذا المسار المعاند هو ما يؤمن بها، فعلًا، وفي الحالتين النتيجة متقاربة: تعطيل الخطط الأميركية، وإرباكها، وإحراجها، وكما نقلت هيئة البث الإسرائيلية، في معرض إظهار التبلُّد الحكومي الاحتلالي، أنَّ مسؤولًا أميركيًا رفيعًا قال لغالانت، في أثناء وجوده في واشنطن: "لم تتمكّنوا من إدخال 50 شاحنة معونات إنسانية إلى شمال قطاع غزّة، فكيف ستتمكنون من إجلاء أكثر من مليون شخص من مدينة رفح؟".
نهج الحكومة الفلسطينية الجديدة يسعى لتكريس هذه الوِجهة المُجرَّبة، وتشكيل الواقع الجديد، مرَّة أخرى، على أساسها
وأمام مقترح غالانت إدخال قوَّة متعدِّدة الجنسيات إلى قطاع غزّة تتكون من جهات مسلَّحة تصل من ثلاث دول عربية في المنطقة، بإشراف أميركي، لا يتضح كيف سيتعاطى نتنياهو معه، وهل ينجح، فيما لو تحمّس له، في إقناع حلفائه الأكثر يمينية بالسماح بتنفيذه؟ قد يقال إن واشنطن، هنا، تنهج سياسة الخطوة خطوة، وإنها تسلك في الطرق السالكة، والطريق الفلسطيني هو الأكثر يُسْراً، تحضيراً، وجاهزيَّة، للتعامُل مع أيِّ انفراج ممكن. لكن هل حقًّا، الطريق الفلسطيني سالك؟ أليس تشكيلُ الحكومة، وَفْق هذه المعطيات، قفزًا على كلِّ الاستحقاقات التوافُقية، والوقائع الاحتلالية المعهود عنها شلُّ أيِّ استعدادات فلسطينية جدّية أو تهميشها، كما كانت تجربة رئيس الحكومة الأسبق سلام فياض؟ هل هذا استخفافٌ بالتداعيات العميقة التي تركتها الحربُ العدوانية غير المسبوقة على غزّة على الشعب الفلسطيني، وتوجّهاته؟ أوليست هذه مصادَرة فجّة لآراء الناس، في هذه المرحلة المصيرية؟ هل يسمح هذا كله بأن يوصَف المسار الفلسطيني بأنه الأكثر انقيادًا؟
نقول هذا لأنَّ هذه الحكومة العتيدة، في الحقيقة، ليست بعيدة عن السياسة، فهي مستندة إلى ما تسمَّى التزامات منظمة التحرير، وبرنامجها السياسي، أو بالأحرى التزامات الجهات المتنفِّذة فيها، وفي الدائرة المحيطة برئيس السلطة. ونهجُها، بالتالي، يسعى لتكريس هذه الوِجهة المُجرَّبة، وتشكيل الواقع الجديد، مرَّة أخرى، على أساسها.