21 مايو 2017
الفلسطينيون يريدون اتفاق "مصارحة"
أعلنت كلٌّ من حركتي "حماس" و"فتح"، في تطورٍ مفاجئ، عن إنهاء الإنقسام الفلسطيني، بتوقيعهما على بنود اتفاق في قطاع غزة، ينهي القطيعة، بتشكيل حكومة توافق وطني في فترة خمسة أسابيع من تاريخ إعلان الاتفاق. وجاء هذا التطور بعد يومين من وصول وفد منظمة التحرير الفلسطينية، عبر المعابر التي يسيطر عليها الاحتلال مع قطاع غزة، فيما كانت جولات التفاوض السابقة من أجل المصالحة تأخذ أبعاداً زمانية ومكانية، أكبر بكثير من البيئة التي تم توقيع الاتفاق فيها الأربعاء، فقطاع غزة الذي يسيطر عليه أحد أطراف الانقسام "حماس" لم يكن مُتصوراً لأن يكون الجغرافيا التي ينجح فيها تحقيق اتفاقٍ فشلت جغرافيا اليمن والقاهرة والدوحة قبلاً في إنجازه، ما يضعنا أمام استفهام كبير بشأن المرونة الفتحاوية في مكان الاتفاق، والغايات المطلوبة من إنجاز اتفاقٍ بهذه السرعة وهذه الظروف. كما أن إعلان الدوحة الشهير، والذي تمّ توقيعه، برعاية أمير قطر السابق، الشيخ حمد بن خليفة، بين رأسي معادلة المصالحة، محمود عباس وخالد مشعل، لم تُكتب لبنوده أن ترى النور، فعلى الرغم من تأكيد بيان الاتفاق الموقع في غزة أنه يستند إلى مرجعيات الاتفاقات السابقة، ومنها اتفاق الدوحة، إلا أن شيئاً لا يضمن أن يصبح اتفاق غزة نفسه مستقبلاً جزءاً من مرجعياتٍ، تتراكم كجدار سميك أمام تحقيق اتفاق فعلي وحقيقي. فالاتفاق الأخير تمّ توقيعه، بحضور عزام الأحمد من فتح، وقيادة حماس في غزة، وموسى أبو مرزوق القادم من مصر وبتسهيلات رسمية، ما يعني أن مشكلةً ما لم تكن قائمة في تنقل أي وفد من قيادة حماس في غزة إلى أي دولة عربية أخرى، لترعى الاتفاق كما جرت العادة، من دون إغفال غياب المصريين عن الاتفاق، على الرغم من الإشارة الشكلية إلى رعايتهم في بيان الاتفاق، فيما لم يُشر البيان إلى أي توقيع رسمي، أو أية ضمانات عربية للاتفاق في المرحلة المقبلة.
شكوك غير متشائمة
كل ما سبق ليس من باب التشكيك بالاتفاق الذي لا شكَّ أن الشارع الفلسطيني استقبله بارتياح كبير، ولكن بشكٍ أكبر، وليس من باب التشاؤم الذي يخيّم على هذا الملف بالتحديد في الساحة الفلسطينية، وإنما من باب مناقشة حقائق، لو تأملناها لوجدنا أنفسنا أمام محطة قد تعقد الملف، وتترك على جسده آثاراً أكثر سلبية مستقبلاً، إذا ما ثبت أن المصالحة لم تعد في ذهنية القيادة الفلسطينية إلا ملفاً يصلح للتوظيف السياسي، أكثر منه ملفاً وطنياً يمس هموم الشارع وطموحاته.
اتسم ملف المصالحة بانطباعات تشكيكيةٍ، وانعدام ثقةٍ كامل بين طرفي الملف، "فتح" و"حماس"، وهذا طبيعي بين أكبر متنافسين على قيادة الشارع الفلسطيني، خصوصاً مع اختلاف البرنامج السياسي لهما كلياً تقريباً، فانعدام الثقة حالة أصيلة، حكمت العلاقة الفتحاوية الحمساوية منذ المحطات الأولى في ثمانينيات القرن الماضي. فالانقسام حالة قائمة بين "فتح" و"حماس" منذ نشأتهما، ولم تكن حركة 14 يوينو حزيران 2007 في قطاع غزة إلا ترسيماً وإشهاراً لقيام الانقسام، بشكله المؤسساتي من خلال تقاسم الأرض والسلطة والنفوذ، خصوصاً بعد إعادة إنتاج الأجهزة الأمنية والحكومية في قطاع غزة، فيما تعمق دور المؤسسات الحكومية في الضفة الغربية، المعادية للتيار الإسلامي ومؤسساته التي شهدت حرباً هي الأشد منذ الاحتلال عام 1967.
مرّت حالة الانقسام بعد "الحسم العسكري" في غزة، منتصف 2007، بمراحل كثيرة، ومنعطفات اقترب بعضها من تحقيق اتفاق، وابتعد بعضها الآخر، فيما وُقِّعت اتفاقات غير ناجزة في محطات أخرى، أهمها اتفاق صنعاء في مارس/ آذار 2008 (بالمناسبة وقعها عزام الأحمد وموسى أبو مرزوق برعاية شخصية من الرئيس اليمني السابق، علي عبد الله صالح)، وإعلان الدوحة في فبراير/ شباط 2012، وكانت الظروف الإقليمية تفرض أجواءها على تطورات هذا الملف، سلباً أو إيجاباً، خصوصاً مع وجود مسلّمات ومحددات حكمت ملف المصالحة، مثل الرعاية العربية، بشقها السياسي والمكاني، حيث الأرض التي تجري المفاوضات عليها، أو التوقيع في حال تمّ ذلك، فكانت هناك رعاية مصرية ثابتة للملف، فيما كانت قطر وسورية واليمن، ودول أخرى في المستوى العربي والإسلامي، حاضرة في دفع الملف، وهو ما غاب تماماً عن هذا الاتفاق، إن من ناحية الرعاية السياسية أو المكانية، فما سر هذا التطور المفاجئ في هذا الملف؟ وهل تكون المفاجأة عنصر سعادة، أم قلق بالنظر للمستقبل؟
ظروف إقليمية
بالنظر إلى الظروف الإقليمية، فإن حركة حماس، في أكثر مراحلها السياسية حرجاً، على مستوى العلاقات الدولية الإقليمية، خصوصاً مع تحولات المشهد المصري التي تأثرت به الحركة، وحكومتها في قطاع غزة بشكل مباشر، منذ الأيام الأولى للانقلاب في مصر. فيما كانت امتدادات الحالة السورية، وتشعباتها، تمثل مصيراً غامضاً، يواجه الحركة التي اتخذت موقفاً هو الأوضح فلسطينياً ضد سلوك النظام السوري مع شعبه، بعد علاقاتٍ كانت تعتبر الأقوى عربياً، وربما دولياً. وبالتالي، كانت المصالحة، في ظل تفعيل سلاح الحصار على قطاع غزة (لم ينفك عنها أصلاً)، والتحولات التي تشهدها المنطقة، حيث كان الإخوان المسلمون (الامتداد الطبيعي للحركة) أهم ضحاياها، كانت مطلباً حمساوياً سياسياً، بل إن أي ثمن ستدفعه الحركة في هذا الملف لإنجازه سيبقى أهون من أَثمان دفعتها، ومازالت تنتظر تسديد غيرها، إذا ما استمر المشهد المصري إلى اللاأفق.
أما حركة فتح التي تخوض مفاوضات بلا جدوى وطنية مع الاحتلال، فهي، الأخرى، وجدت نفسها أمام مآزق ومطبات، فعلى الرغم من أن مشهد التحولات الإقليمية ألقى ظلالاً إيجابيةً على "فتح" وحكمها، وعادت السلطة إلى البيئة التي تنسجم مع أدائها وخطها السياسي، المتوافق مع حالة النظام الرسمي العربي التقليدي، خصوصاً بعد تطوير علاقةٍ استثنائيةٍ، في آخر سنة ونصف مع النظام السوري، والذي مثّل خصمها التاريخي إقليمياً. هذا كله كان على حساب حركة حماس، وأعطى نقاط قوة لحركة فتح التي تعرف جيداً كيف تدير صراعها في ظل هكذا بيئة. إلا أن الملف السياسي الأهم للسلطة، وهو المفاوضات مع الاحتلال، بقي عاجزاً عن التقدم، ولو خطوة واحدة، بعد أن وصلت المفاوضات إلى أفق مسدود، بسبب تعنت الإسرائيليين في إعطاء، ولو نافذة أمل مزيّفة، لقيادة سلطةٍ نجح الإسرائيلي في إحضارها إلى طاولة التفاوض، من دون أي نقاش في ملف المستوطنات الذي كان شرط السلطة لبدء التفاوض، واستعاضت عنه بإنجازٍ وهميٍّ، متعلق بإطلاق أسرى على مرحلتين، وهو ما تنصل منه الاحتلال، أيضاً، ووضع الجميع بمن فيهم، الأميركيين، أمام موقفٍ حرجٍ، لم يتمكن أحد من معالجته حتى اللحظة.
وبالنظر إلى ما في أيدي فريق التفاوض الفلسطيني من أوراق ضد الاحتلال، لا نجد أكثر من حسن النوايا السمجة، والثقة التي لابد منها بالراعي الأميركي، فيما مشاريع الاستيطان والاعتقال التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي تكاد ترسم كل يوم واقعاً جديداً، يعيد المفاوضات إلى ما قبل الصفر. وبالتالي، كانت غزة والمصالحة معها ضالة المفاوض الفلسطيني، للملمة بعض أوراقه التي بات يدرك أنها أهم من الحقائب الدبلوماسية، المحشوة بتقارير حسن السلوك والخرائط، فيما ينعم الاحتلال بأمن الضفة، بفضل الأعين الساهرة للأجهزة الأمنية للسلطة الفلسطينية، بموجب اتفاقاتٍ، ليس لها أدنى علاقة بملف المفاوضات السياسية، وفقاً لإستراتيجية إسرائيليةٍ في المفاوضات، ترتكز على تفتيت الملفات، وفصلها عن بعضها.
ملفات فتحاوية
هذا من وجهة نظر تقول إن المصالحة استحقاق فشل المفاوضات، أو، على الأقل، استحقاق الوفاض الخالي لفريق التفاوض الفلسطيني، إلا أن وجهة نظر أخرى قد تقترب من سيناريو التوظيف بشكل أخطر، تقول إن المصالحة وارتباطها بملف المفاوضات أمر حتمي، والتساهل الفتحاوي فيها مردّه اقتراب فريقي التفاوض من توقيع اتفاقٍ ما، يحتاج شرعية فلسطينية، غير ممكنة من دون مصالحة، ومن دون زيارة أبو مازن غزة، وقيام حكومة توافق وطني، تعطي الانطباع بالتفويض للرئيس الفلسطيني، فيما يمكن رمي باقي الملفات، كما رميت بعد اتفاق القاهرة عام 2005 بعد إنجاز الهدنة التي لولاها لما كان هناك اتفاق أصلاً.
وكان للعامل الداخلي للسلطة الوطنية الفلسطينية في الضفة الغربية، ولحركة فتح تحديداً، أثر مباشر في إنجاز اتفاق المصالحة "المؤقت ربما"، فعلى صعيد شارع الضفة، والمتتبع للنفس العام في الفضاء الافتراضي، يلمس، من دون أي عناء، حالةً من السخط على الأداء الحكومي، المتسم بالفساد الملحوظ الذي أحدث، ويحدث، أزمات ماليةً مباشرة، في المؤسسات الحكومية التي تعجز عن دفع رواتب الموظفين بين فينة وأخرى، خصوصاً مع ضغط الدول المانحة، وعلى الرغم أن مشهد الأزمة الاقتصادية أعمق في قطاع غزة، إلا أن اختلاف مسبباته تجعل التأثير السياسي لهما مختلفاً بالقياس والنتيجة. أضف إلى ذلك الوضع الداخلي للسلطة، حيث الأزمة داخل حركة فتح، وخصوصاً بين جناحي محمود عباس ومحمد دحلان، والذي أخذ أبعاداً إعلامية لم تكن متوقعه، فيما المال السياسي لتغذية هذا الصراع، خصوصاً من تيار دحلان، المدعوم من أجهزة إقليمية، بدأ يترك تصوراتٍ مرعبةً على مستقبل الحركة، ومستقبل رئيسها الحالي أبو مازن، خصوصاً إذا ما أخذنا في الاعتبار أن تياراً قوياً في النظام المصري الحاكم تعاطى مع دحلان، على أنه أحد محددات المرحلة المقبلة، وهذا بالنظر إلى قوة دحلان التمويلية. وقد فتح الإعلام المصري شاشاته له ردحاً وسباً شتماً، من دون تجاهل قوة دحلان في سيناء، وبقايا أجهزته الهاربة من غزة، والتي لم تغادر العريش وسيناء منذ 2007، وبعد الحديث علناً عن مشروع تقاربٍ من دحلان باتجاه حماس، لترتيب عودته إلى غزة، رفضتها الأخيرة.
كل هذه الظروف لطرفي معادلة المصالحة الفلسطينية تجعل من توقيع اتفاقٍ أمراً سهلاً. لكن، ليس بالضرورة أن ينساق هذا السهل على التطبيق، خصوصاً أن الاتفاق ذهب إلى ما هو أوسع، وأرحب، من حالة الانقسام التي تركتها حادثة يونيو/ حزيران 2007، وإنما استرجع اتفاق القاهرة عام 2005 والإطار القيادي لمنظمة التحرير الفلسطينية وإصلاح مؤسسات المنظمة، وتحدث عن انتخاباتٍ متزامنةٍ، تشريعية ورئاسية وللمجلس الوطني، وجميعنا يعلم حجم التفاصيل الخلافية في هذه القضايا، وآليات تطبيقها، ووجهات النظر المتباينة حولها.
يشبه اتفاق المصالحة الموقع في غزة، من الناحية الإجرائية، اتفاق أوسلو، مع التأكيد على الفرق السياسي والمضمون بينهما، إذ إنه لا يمثل أكثر من إعلان مبادئ، يبقي كل ما هو قائم على حاله، ويقذف بالتفاصيل التي يسكنها الشيطان إلى ما بعد مرحلة الاتفاق والتوقيع. ما يعني أن المطلوب "اتفاق" مصالحة، وليس مصالحة، مطلوب سياسياً اتفاق يخرج كل من الطرفين من عنق الزجاجة فقط، وهو ما قد يفسر السهولة في إنجاز الاتفاق، وربما هذا ما يفسر عدم وجود رعايةٍ رسميةٍ، من أية دولة عربية، لا يريد الطرفان إدخالها في حرج الفشل المعروف سلفاً من جديد.
قد يكون هذا الاتفاق المطلوب سياسياً، وقد يكون حقاً لأي فريق سياسي أن يدير أزمته بالطريقة التي يريد، إلا أن الشارع الفلسطيني بات يطالب باتفاق "مصارحة"، يضعه أمام التحديدات التي تواجهه وتواجه قيادته، فقد يكون هذا أيسر الطرق من أجل مصالحة فلسطينية ناجزة.
شكوك غير متشائمة
كل ما سبق ليس من باب التشكيك بالاتفاق الذي لا شكَّ أن الشارع الفلسطيني استقبله بارتياح كبير، ولكن بشكٍ أكبر، وليس من باب التشاؤم الذي يخيّم على هذا الملف بالتحديد في الساحة الفلسطينية، وإنما من باب مناقشة حقائق، لو تأملناها لوجدنا أنفسنا أمام محطة قد تعقد الملف، وتترك على جسده آثاراً أكثر سلبية مستقبلاً، إذا ما ثبت أن المصالحة لم تعد في ذهنية القيادة الفلسطينية إلا ملفاً يصلح للتوظيف السياسي، أكثر منه ملفاً وطنياً يمس هموم الشارع وطموحاته.
اتسم ملف المصالحة بانطباعات تشكيكيةٍ، وانعدام ثقةٍ كامل بين طرفي الملف، "فتح" و"حماس"، وهذا طبيعي بين أكبر متنافسين على قيادة الشارع الفلسطيني، خصوصاً مع اختلاف البرنامج السياسي لهما كلياً تقريباً، فانعدام الثقة حالة أصيلة، حكمت العلاقة الفتحاوية الحمساوية منذ المحطات الأولى في ثمانينيات القرن الماضي. فالانقسام حالة قائمة بين "فتح" و"حماس" منذ نشأتهما، ولم تكن حركة 14 يوينو حزيران 2007 في قطاع غزة إلا ترسيماً وإشهاراً لقيام الانقسام، بشكله المؤسساتي من خلال تقاسم الأرض والسلطة والنفوذ، خصوصاً بعد إعادة إنتاج الأجهزة الأمنية والحكومية في قطاع غزة، فيما تعمق دور المؤسسات الحكومية في الضفة الغربية، المعادية للتيار الإسلامي ومؤسساته التي شهدت حرباً هي الأشد منذ الاحتلال عام 1967.
مرّت حالة الانقسام بعد "الحسم العسكري" في غزة، منتصف 2007، بمراحل كثيرة، ومنعطفات اقترب بعضها من تحقيق اتفاق، وابتعد بعضها الآخر، فيما وُقِّعت اتفاقات غير ناجزة في محطات أخرى، أهمها اتفاق صنعاء في مارس/ آذار 2008 (بالمناسبة وقعها عزام الأحمد وموسى أبو مرزوق برعاية شخصية من الرئيس اليمني السابق، علي عبد الله صالح)، وإعلان الدوحة في فبراير/ شباط 2012، وكانت الظروف الإقليمية تفرض أجواءها على تطورات هذا الملف، سلباً أو إيجاباً، خصوصاً مع وجود مسلّمات ومحددات حكمت ملف المصالحة، مثل الرعاية العربية، بشقها السياسي والمكاني، حيث الأرض التي تجري المفاوضات عليها، أو التوقيع في حال تمّ ذلك، فكانت هناك رعاية مصرية ثابتة للملف، فيما كانت قطر وسورية واليمن، ودول أخرى في المستوى العربي والإسلامي، حاضرة في دفع الملف، وهو ما غاب تماماً عن هذا الاتفاق، إن من ناحية الرعاية السياسية أو المكانية، فما سر هذا التطور المفاجئ في هذا الملف؟ وهل تكون المفاجأة عنصر سعادة، أم قلق بالنظر للمستقبل؟
ظروف إقليمية
بالنظر إلى الظروف الإقليمية، فإن حركة حماس، في أكثر مراحلها السياسية حرجاً، على مستوى العلاقات الدولية الإقليمية، خصوصاً مع تحولات المشهد المصري التي تأثرت به الحركة، وحكومتها في قطاع غزة بشكل مباشر، منذ الأيام الأولى للانقلاب في مصر. فيما كانت امتدادات الحالة السورية، وتشعباتها، تمثل مصيراً غامضاً، يواجه الحركة التي اتخذت موقفاً هو الأوضح فلسطينياً ضد سلوك النظام السوري مع شعبه، بعد علاقاتٍ كانت تعتبر الأقوى عربياً، وربما دولياً. وبالتالي، كانت المصالحة، في ظل تفعيل سلاح الحصار على قطاع غزة (لم ينفك عنها أصلاً)، والتحولات التي تشهدها المنطقة، حيث كان الإخوان المسلمون (الامتداد الطبيعي للحركة) أهم ضحاياها، كانت مطلباً حمساوياً سياسياً، بل إن أي ثمن ستدفعه الحركة في هذا الملف لإنجازه سيبقى أهون من أَثمان دفعتها، ومازالت تنتظر تسديد غيرها، إذا ما استمر المشهد المصري إلى اللاأفق.
أما حركة فتح التي تخوض مفاوضات بلا جدوى وطنية مع الاحتلال، فهي، الأخرى، وجدت نفسها أمام مآزق ومطبات، فعلى الرغم من أن مشهد التحولات الإقليمية ألقى ظلالاً إيجابيةً على "فتح" وحكمها، وعادت السلطة إلى البيئة التي تنسجم مع أدائها وخطها السياسي، المتوافق مع حالة النظام الرسمي العربي التقليدي، خصوصاً بعد تطوير علاقةٍ استثنائيةٍ، في آخر سنة ونصف مع النظام السوري، والذي مثّل خصمها التاريخي إقليمياً. هذا كله كان على حساب حركة حماس، وأعطى نقاط قوة لحركة فتح التي تعرف جيداً كيف تدير صراعها في ظل هكذا بيئة. إلا أن الملف السياسي الأهم للسلطة، وهو المفاوضات مع الاحتلال، بقي عاجزاً عن التقدم، ولو خطوة واحدة، بعد أن وصلت المفاوضات إلى أفق مسدود، بسبب تعنت الإسرائيليين في إعطاء، ولو نافذة أمل مزيّفة، لقيادة سلطةٍ نجح الإسرائيلي في إحضارها إلى طاولة التفاوض، من دون أي نقاش في ملف المستوطنات الذي كان شرط السلطة لبدء التفاوض، واستعاضت عنه بإنجازٍ وهميٍّ، متعلق بإطلاق أسرى على مرحلتين، وهو ما تنصل منه الاحتلال، أيضاً، ووضع الجميع بمن فيهم، الأميركيين، أمام موقفٍ حرجٍ، لم يتمكن أحد من معالجته حتى اللحظة.
وبالنظر إلى ما في أيدي فريق التفاوض الفلسطيني من أوراق ضد الاحتلال، لا نجد أكثر من حسن النوايا السمجة، والثقة التي لابد منها بالراعي الأميركي، فيما مشاريع الاستيطان والاعتقال التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي تكاد ترسم كل يوم واقعاً جديداً، يعيد المفاوضات إلى ما قبل الصفر. وبالتالي، كانت غزة والمصالحة معها ضالة المفاوض الفلسطيني، للملمة بعض أوراقه التي بات يدرك أنها أهم من الحقائب الدبلوماسية، المحشوة بتقارير حسن السلوك والخرائط، فيما ينعم الاحتلال بأمن الضفة، بفضل الأعين الساهرة للأجهزة الأمنية للسلطة الفلسطينية، بموجب اتفاقاتٍ، ليس لها أدنى علاقة بملف المفاوضات السياسية، وفقاً لإستراتيجية إسرائيليةٍ في المفاوضات، ترتكز على تفتيت الملفات، وفصلها عن بعضها.
ملفات فتحاوية
هذا من وجهة نظر تقول إن المصالحة استحقاق فشل المفاوضات، أو، على الأقل، استحقاق الوفاض الخالي لفريق التفاوض الفلسطيني، إلا أن وجهة نظر أخرى قد تقترب من سيناريو التوظيف بشكل أخطر، تقول إن المصالحة وارتباطها بملف المفاوضات أمر حتمي، والتساهل الفتحاوي فيها مردّه اقتراب فريقي التفاوض من توقيع اتفاقٍ ما، يحتاج شرعية فلسطينية، غير ممكنة من دون مصالحة، ومن دون زيارة أبو مازن غزة، وقيام حكومة توافق وطني، تعطي الانطباع بالتفويض للرئيس الفلسطيني، فيما يمكن رمي باقي الملفات، كما رميت بعد اتفاق القاهرة عام 2005 بعد إنجاز الهدنة التي لولاها لما كان هناك اتفاق أصلاً.
وكان للعامل الداخلي للسلطة الوطنية الفلسطينية في الضفة الغربية، ولحركة فتح تحديداً، أثر مباشر في إنجاز اتفاق المصالحة "المؤقت ربما"، فعلى صعيد شارع الضفة، والمتتبع للنفس العام في الفضاء الافتراضي، يلمس، من دون أي عناء، حالةً من السخط على الأداء الحكومي، المتسم بالفساد الملحوظ الذي أحدث، ويحدث، أزمات ماليةً مباشرة، في المؤسسات الحكومية التي تعجز عن دفع رواتب الموظفين بين فينة وأخرى، خصوصاً مع ضغط الدول المانحة، وعلى الرغم أن مشهد الأزمة الاقتصادية أعمق في قطاع غزة، إلا أن اختلاف مسبباته تجعل التأثير السياسي لهما مختلفاً بالقياس والنتيجة. أضف إلى ذلك الوضع الداخلي للسلطة، حيث الأزمة داخل حركة فتح، وخصوصاً بين جناحي محمود عباس ومحمد دحلان، والذي أخذ أبعاداً إعلامية لم تكن متوقعه، فيما المال السياسي لتغذية هذا الصراع، خصوصاً من تيار دحلان، المدعوم من أجهزة إقليمية، بدأ يترك تصوراتٍ مرعبةً على مستقبل الحركة، ومستقبل رئيسها الحالي أبو مازن، خصوصاً إذا ما أخذنا في الاعتبار أن تياراً قوياً في النظام المصري الحاكم تعاطى مع دحلان، على أنه أحد محددات المرحلة المقبلة، وهذا بالنظر إلى قوة دحلان التمويلية. وقد فتح الإعلام المصري شاشاته له ردحاً وسباً شتماً، من دون تجاهل قوة دحلان في سيناء، وبقايا أجهزته الهاربة من غزة، والتي لم تغادر العريش وسيناء منذ 2007، وبعد الحديث علناً عن مشروع تقاربٍ من دحلان باتجاه حماس، لترتيب عودته إلى غزة، رفضتها الأخيرة.
كل هذه الظروف لطرفي معادلة المصالحة الفلسطينية تجعل من توقيع اتفاقٍ أمراً سهلاً. لكن، ليس بالضرورة أن ينساق هذا السهل على التطبيق، خصوصاً أن الاتفاق ذهب إلى ما هو أوسع، وأرحب، من حالة الانقسام التي تركتها حادثة يونيو/ حزيران 2007، وإنما استرجع اتفاق القاهرة عام 2005 والإطار القيادي لمنظمة التحرير الفلسطينية وإصلاح مؤسسات المنظمة، وتحدث عن انتخاباتٍ متزامنةٍ، تشريعية ورئاسية وللمجلس الوطني، وجميعنا يعلم حجم التفاصيل الخلافية في هذه القضايا، وآليات تطبيقها، ووجهات النظر المتباينة حولها.
يشبه اتفاق المصالحة الموقع في غزة، من الناحية الإجرائية، اتفاق أوسلو، مع التأكيد على الفرق السياسي والمضمون بينهما، إذ إنه لا يمثل أكثر من إعلان مبادئ، يبقي كل ما هو قائم على حاله، ويقذف بالتفاصيل التي يسكنها الشيطان إلى ما بعد مرحلة الاتفاق والتوقيع. ما يعني أن المطلوب "اتفاق" مصالحة، وليس مصالحة، مطلوب سياسياً اتفاق يخرج كل من الطرفين من عنق الزجاجة فقط، وهو ما قد يفسر السهولة في إنجاز الاتفاق، وربما هذا ما يفسر عدم وجود رعايةٍ رسميةٍ، من أية دولة عربية، لا يريد الطرفان إدخالها في حرج الفشل المعروف سلفاً من جديد.
قد يكون هذا الاتفاق المطلوب سياسياً، وقد يكون حقاً لأي فريق سياسي أن يدير أزمته بالطريقة التي يريد، إلا أن الشارع الفلسطيني بات يطالب باتفاق "مصارحة"، يضعه أمام التحديدات التي تواجهه وتواجه قيادته، فقد يكون هذا أيسر الطرق من أجل مصالحة فلسطينية ناجزة.