الفلسطينيون في الأميركيتَيْن... الدورة تدور
محمد خضّور شابٌّ فلسطيني - أميركي من قرية بدّو في الضفة الغربية. في السابعة عشرة من عمره. كان، قبل بضعة أيام، يتنزّه مع صديق الطفولة مالك، بسيارة أخيه. يأكلان الشوكولاتة، يمزحان ويحلمان بالغد. تبلغ سيارتهما مكاناً خطراً، يقع على جزءٍ من السور الواقع في جنوب غرب رام الله، حيث قُتِل شابان من بيت لاهيا وبيت عنان. فجأةً، تنطلق رصاصة تخرُق رأس محمّد وتقتله على الفور، من جهة السور، حيث المستوطنات. الشرطة والجيش الإسرائيليّان يعلنان جهلهما بما يسمونها "حادثة". والفرق الوحيد بين محمّد والشابّين اللذيْن سبقاه إلى الموت في القريتين المجاورتين، أنه مواطن أميركي. ولد هناك. قبل ثلاثة أسابيع على اغتياله، قُتِل شابٌّ أميركيٌّ فلسطينيٌّ آخر، توفيق عبد الجبّار، 17 عاماً أيضاً، من قرية مزرعة الشرقية. لكن الفرق أن الذي قتله شرطيٌّ بثيابٍ مدنيّة، شكّ بأن توفيقاً يستعدّ لرميه بالحجارة، فأُعفِي من التحقيق... أصيب مالك، صديق محمّد، بصدمة قوية، فقرّر والده إرساله إلى الولايات المتحدة لدى أعمامه القاطنين هناك، ويعلن أنه يودّ بذلك أن يرى ابنه "كيف يعيش الناس في أميركا".
أميركا هي التي تربط بين هذه الأخبار السريعة. تجاهل إسرائيل جريمة قتل محمد خضّور، يسمح للسفارة الأميركية بالسؤال عنها والتحقيق بها، وهي أعلنت عن ذلك، خلافاً للجريمة الثانية بحقّ توفيق عبد الجبار، التي تقف "قانونية" مقتله، أي النية برمي حجارة، من دون إجراء تحقيق أميركي رسمي بها. ومالك يرسله أبوه إلى أميركا، أملاً بالتخفيف من صدمته على مقتل صديقه.
هذه عيّنة عن التداخل البشري، الأهلي، بين فلسطين وأميركا؛ شاهدنا تعبيراته الأخرى، "المحلية"، في كمّ التظاهرات والتفاعلات والتصريحات الشعبية، قبل المواقف شبه الرسمية التي صبّت لصالح أهل غزّة. ناهيك عن الرسمية، داخل الحزب الديمقراطي (الحاكم)، وفي الإدارات الحكومية. وعلى الرغم من ضعف مواقف هذه الأخيرة، غير أنها تخالف التقاليد التي أسّسها المهاجرون اليهود منذ بداية القرن الماضي، وجعلت أميركا أكثر الدول تأييداً لإسرائيل. وهذا التداخل هو نتيجة دورة زمنية ممتدّة. إذا رغبنا بتوضيح ملامحها، يمكننا الذهاب بعيداً جداً: اليهود بقيادة نبيّهم موسى، عليه السلام، اجتازوا صحراء سيناء هرباً من فرعون، ليحلّوا على "أرض كنعان" كما سمّوها. فيما أحفادهم اليوم يقومون الآن بالحركة العكسية: إجلاء مليون ونصف مليون فلسطيني من غزّة نحو سيناء، تخلّصاً منهم، وطمعاً بأرضهم.
لا ينكر الإسرائيليون أنهم في غزّة ينوون إبلاء الفلسطينيين بنكبة ثانية، أي بالطرد النهائي مما تبقى من أرضهم؛ من غزّة على أوضح وجه
مثلٌ آخر: بعدما تفرّق اليهود في العهود القديمة، نتيجة تهجيرَيْن، بابلي وروماني، صاروا موزّعين مشتّتين في أنحاء العالم، فتضافرت حروبٌ وحظوظٌ ومصالحُ تسمح لهم بجمع شتاتهم في دولة واحدة، إسرائيل، منذ ثلاثة أرباع القرن، وبطرد سكانها الفلسطينيين إلى شتات آخر. في سنوات النكبة الأولى، يقوم الإسرائيليون بما ارتُكِب ضدهم من طرد وإقصاء، وهم الآن بصدد متابعة عمليتهم، ولا يخفون أنهم في غزّة ينوون إبلاء الفلسطينيين بنكبة ثانية، أي بالطرد النهائي مما تبقى من أرضهم؛ من غزّة على أوضح وجه، ومن الضفة الغربية والقدس، بتغطية إعلامية أقل.
إلى أين يذهب كل هؤلاء؟ أي دول تؤمن لهم الحماية والعمل والمواطنة؟ أميركا، أولاً، حيث نواة دياسبورا فلسطينية على الطريقة اليهودية بدأت تتجمّع ملامحها. وهي ما زالت في طوْر جنيني، لكنها آخذةٌ بالنمو، مع الأحداث، ومع تزايد عدد المهاجرين الفلسطينيين، إلى جانب العرب الآخرين، المبْتلين بأنظمتهم.
الحكومة الأميركية محكومةٌ بالتاريخ وبالجيوسياسة وبزعامة العالم وباللوبيّات اليهودية المموّلة لمرشّحيها. والارتقاء الفلسطيني العربي إلى مصاف التأثير الفعّال على سياستها الإسرائيلية لا يحتاج سوى الوقت؛ لينمو عدد المهاجرين الفلسطينيين والعرب، الطافشين من بلادهم، بالعدد وبالتنظيم بما يجعلهم قوّة مؤثرة على سياسة بلادهم... وهذه القوّة بلغت مع الحرب على غزّة مستوى إمكانية خسارة جو بايدن في الانتخابات الرئاسية المقبلة نتيجة دعمه إسرائيل.
لكن، ثمّة أميركا أخرى، اللاتينية. وهي تنبئ بمستقبلٍ مفتوحٍ على الاحتمالات أسرع. الدياسبورا العربية فيها تعود إلى نهايات القرن قبل الماضي، لكنّها تتجاوز الشمالية عدداً (23 مليون عربي). الفلسطينيون موزّعون فيها، ويتمركزون في البرازيل وتشيلي، فيما اليهود أقلّ من مليون شخص، معظمهم في تشيلي والبرازيل. قبل أكثر من عشر سنوات، اعترفت دولها بفلسطين دولة ذات سيادة، بحدود العام 1967، الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس، باستثناء كولومبيا وبنما والمكسيك. وخلال الحرب على غزّة، خمسٌ من دولها قطعت علاقاتها مع إسرائيل، وشهدت شوارعها أكبر التظاهرات المؤيدة لفلسطين. وكانت البرازيل، بقيادة لولا دا سيلفا، السبّاقة إلى ذلك. والعلاقة بين المجموعات الفلسطينية والحزب العمّالي بقيادة لولا دا سيلفا نُسِجت من زمان. كذلك العلاقة بينهم وبين منظمّات المجتمع المدني البرازيلي، وأهمها نقابة العمّال. وكلها سمحت، منذ أعوام، بإلغاء التعاون الرسمي مع إسرائيل في المجال الفضائي العسكري، مثلاً. فكان التصريح القنبلة الذي تسبّب بغضبٍ إسرائيلي عارم. رئيس البرازيل، أيناسيو لولا دا سيلفا، في أديس أبابا، قبل أيام، في اختتام القمّة الأفريقية: "ما يجري للشعب الفلسطيني في قطاع غزّة لم يحصل في أي لحظة من التاريخ. والواقع أنه حصل: عندما قرّر هتلر قتل اليهود". ما تسبّب بأزمة ديبلوماسية مع إسرائيل، وبردٍّ عنيف منها.
الحكومة الأميركية محكومةٌ بالتاريخ وبالجيوسياسة وبزعامة العالم وباللوبيّات اليهودية المموّلة لمرشّحيها
بوليفيا وكولومبيا سارعتا إلى تأييد لولا دا سيلفا، وكرجت السُبْحة، إلا الرئيس الأرجنتيني الجديد، اليميني المتطرّف خافيير ميلي، الذي انتخب في أواخر العام الماضي، أعلن رفضه كلمات لولا دا سيلفا، وتأييده المطلق إسرائيل في حربها على غزّة، فاليسار الأميركي الجنوبي هو الذي يسيطر على الحكم في مجمل دوله. واللقاء هذا مرشّح للاستمرار بانياً تقاليد سياسية سوف تتراكم مع الوقت، ومع النكبة الفلسطينية الثانية، لتغذّي هذا اليسار بالبشَر وبالفكرة. وتتحوّل بذلك أميركا اللاتينية إلى أميركا الشمالية سابقاً. مجموعات فلسطينية منظمّة وذات دوافع سياسية عالية، تضغط باتجاه تبديل وجهة الصراع.
هذا لا يعني أن الولايات المتحدة ستكون صفراً على الشمال، بل ربما توازي اللاتينية. مع انتهاء الجيل الأول الذي بنى مجد إسرائيل، وصعود أميركيين آخرين، فلسطينيين، عرب، وربما مسلمين، سيكوّنون لوبيّات ذات خيوط وبرامج وقوى بشرية ضاربة، تماماً كما حصل في بداية القرن الماضي مع نظيراتها اليهودية.
أخيراً: لئن كان هذا اليسار الأميركي اللاتيني بنى هيكله الفكري على العداء للجارة القوية الولايات المتحدة، فإنه مهدّدٌ بالانزلاق إلى ما بلغه اليسار العربي الذي انقسم مع ممانعين، وكلاء إيران، أصحاب مليشيات، وكلاء عنها في المشرق واليمن.
الإرهاب والاستزلام لدولة ذات أجندة ابتزازية خاصة، حصل هذا كله مع اليهود على مرّ القرون التي أمضوها في منفاهم الطويل
وجود حزب الله هناك، وأنشطته المشبوهة خصوصاً في "المثلث الحدودي" الجامع بين الأرجنتين والبرازيل وباراغوي، بالتوازي مع ركوبه موجة التأييد لفلسطين... قد يُفسد الجهود الشعبية السلمية التي يخوضُها الفلسطينيون في أميركا اللاتينية. وبعد شهر من انطلاق الحرب على غزّة، يكتشف الأمن البرازيلي في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي خطّة تفجيرات، وأوقف شخصيْن يشتبه بأنهما كانا ينويان المشاركة في تنفيذها، أعلن الموساد الإسرائيلي لاحقاً أنّهما من حزب الله، وذلك في ظل عهد لولا دا سيلفا المدافع عن فلسطين.
الدورة هنا تدور أيضاً. الإرهاب والاستزلام لدولة ذات أجندة ابتزازية خاصة، حصل هذا كله مع اليهود على مرّ القرون التي أمضوها في منفاهم الطويل. تُذكر المنظمّات اليهودية الإرهابية التي ساهمت بتأسيس إسرائيل، الليهي (المعروف بـ"شتيرن")، الأرغون، الهاغانا، البالماخ. أربع منظمّات إرهابية صهيونية قتلت وفجّرت عربا وجنودا بريطانيين في عمليات مروّعة. ومناحيم بيغين، رئيس الوزراء الأسبق، كان من مؤسّسي الثانية، الأرغون، المنشقّة عن الهاغانا. والغالبية العظمى من رجال هذه المنظمات دخلوا الجيش الإسرائيلي في أولى أيام نشأته...
والرجاء أن تدور الدورة، حتى اكتمالها. ومن دون أن تُحدث تشوهات أخلاقية بقادتها، كما تلك التي حصلت مع اليهود في منفاهم الطويل. الرجاء ألّا يطول المنفى، وألّا نحتاج إلى إرهاب.