العمّال بلا حزبهم .. "كفى" البريطانية
"حملة كفى في المملكة المتحدة وفي جميع أنحاء العالم، هكذا يقاوم العمّال. لقد سئموا وتعبوا من رؤية الأغنياء يزدادون ثراء، بينما يتراجع العمّال أكثر فأكثر. نحن نتضامن مع أشقائنا وشقيقاتنا في المملكة المتحدة". هنا تغريدة دوّنها، في 17 أغسطس/ آب الجاري، المتنافس السابق على تمثيل الحزب الديمقراطي الأميركي في الانتخابات الرئاسية بيرني ساندرز.
مرّات قليلة خلال العقود الثلاثة الأخيرة أثار فيها فعلٌ سياسيٌ إنكليزي النخبةَ السياسية الأميركية. عادة يستقطب السياقُ الثقافي والمعرفي في المملكة المتحدة الدوائرَ المشابهة في الولايات المتحدة. سياسياً، التأثير عكسي. تترقّب لندن أحياناً غير قليلة حدثاً ما في واشنطن. حتى الجونسونية (نسبة إلى بوريس جونسون)، بخطابها الشعبوي، كانت، إلى حد ما، انعكاساً للترامبية. أما الآن، فمتغيرات اقتصادية وسياسية كبيرة صارت بريطانيا أحدَ أهم مراكزها تشقّ طريقها مبلوِرةً مجسّاتٍ لترقب أميركي.
الممثل السابق لأقصى اليسار الأميركي، ساندرز، اندفع خارج الحدود ضمن رؤية يسار عالمي. السبب، فضلاً عن أنّ تحدّيَ اليمينَ الشعبوي تجاوز الدوائرَ القُطرية، وجودُ وضعٍ مستجد ذي طابع اقتصادي في ظاهره، ووراءه عوامل أخرى. دخلت المملكة المتحدة في هذا السياق أبكرَ من جاراتها الأوروبيات بابَ الأزمات الراهنة. قبل كورونا، أخذ حيّزاً من الإرباك خروجُ المملكة من الاتحاد الأوروبي وفق استفتاء عام 2016. وفي معزلٍ عن الدواعي، كانت النتائجُ صريحةً رغم محاولات تغطيتها بأحداثٍ أخرى مثل الجائحة وغزو أوكرانيا.
إلى الوراء قليلاً نعود، تحديداً رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، ديفيد كاميرون. الزعيمُ المحافظ الأسبق كافحَ ضد "بريكست"، لكنّه حوصر داخل حزبه، فتصرّف بخوف جعله يدعو إلى استفتاء غير محسوب النتائج، أدّى إلى أن الأمة صوّتت للخروج بأغلبية تجاوزت قليلاً 50%. استقال الرجل، رغم أنه أهم الزعماء المحافظين في العقدين الأخيرين وأكثرُهم امتلاكاً رؤية وبرنامجاً. بعدها، وبسبب صعوبات الطلاق مع الأوروبيين، استقالت خليفته تيريزا ماي. تقدّم جونسون، بطريقته الخطابية المؤثرة، ماضياً بعناد نحو ما يريد، بلا تصوّرات مكتملة أحياناً، فنجح في التوصل إلى اتفاق وخرجت بريطانيا. واستطاع أيضاً أخْذَ الأمورِ إلى انتخاباتٍ مبكّرة سحق فيها خصمه العمال بضربة قلّما تلقى مثلَها سابقاً.
لم يبرز الحراك من المعارضة التقليدية المتمثلة في القيادة الراهنة لحزب العمّال ولليبراليين الديمقراطيين
أطيح جونسون، أخيراً، وها هو الحزب في طريقه إلى اختيار بديل بين مرشّحينِ، وزيرة الخارجية ليز تراس ووزير المالية السابق ريشي سوناك. حظوظ السيدة أكثر وفق استطلاعات الرأي. هنا، تحديداً في 8 أغسطس/ آب الجاري، تبدأ حكاية أخرى في سياقٍ لا يبدو تقليدياً. إجبار جونسون على الاستقالة، وتقدّم تراس في الاستطلاعات، أسهما بحسم في ولادة حملة النقابات "كفى يعني كفى"، والتي تقترب نوعاً من كونها دعوة إلى ثورةٍ على الواقع الحكومي، فالاستقالة من جهة وترشيحُ شخصية لم تَظهَر مالكةً تصوراً كافياً عن إدارة بلد يواجه تداعيات أزماتٍ ثلاث؛ كوفيد والطاقة بفعل حرب أوكرانيا وبريكست، أسهما في ولادة نمط من المعارضة جديد.
لم يبرز الحراك من المعارضة التقليدية المتمثلة في القيادة الراهنة لحزب العمّال ولليبراليين الديمقراطيين. ففي 8 أغسطس/ آب الجاري، شرعت الحملةُ جامعةً المشتركين على شبكة الإنترنت. وفي 18 منه، تجمّع مئات النقابيين في مهرجان للحملة جنوبي لندن، معلنين انطلاق برنامجهم على أرض الواقع. في مقدمتهم اتحاد السكك الحديدية والنقل البحري والبرّي. يقود الاتحاد هذا أخيراً إضراباتٍ في قطاع النقل ذات أثر بالغ. إذ توقفت القطارات والحافلات أكثر من مرة خلال الأشهر الثلاثة الماضية بسياسة الإضراب، أيْ شلّ أهم شريان في العاصمة، وهو السكك الحديدية، وبالتالي توقف معظم القطاعات الحيوية.
أعلنت الحملة ذات الطابع اليساري، كما هو مدوّن على صفحتها الإلكترونية، خمسةَ مطالب: زيادة حقيقية لأجور العمال، وخفض فواتير الطاقة، وإنهاء غلاء الغذاء، وتوفير منازل لائقة للجميع، وفرض ضرائب على الأغنياء. هي في النهاية تتماهى مع الأوضاع الاقتصادية الآخذة بتردٍّ مستمر. إذ سبقتها حملة محدودة دعت إلى عدم دفع فواتير الكهرباء وغاز المنازل، ردّاً على رفع الشركات أسعارَ الطاقة في البلاد بذريعة أزمة الوقود العالمية.
بجردة سريعة للتاريخ غير البعيد، نجد حملاتٍ مشابهةً قادتها النقابات في بريطانيا. أهمها إضرابات بقيادة نقابة عمال مناجم الفحم، زمنَ مارغريت تاتشر، في النصف الأول من ثمانينيات القرن الماضي. سبقتها حملاتٌ مماثلة في عهد سلفها جيمس كالاهان في النصف الثاني من السبعينيات التي عُرفت بإضرابات شتاء الاستياء Winter of Discontent. وفي 2010، أي العام الأخير من حكم "العمّال"، برئاسة غوردن براون، تحرّك نحو خمسين ألف طالب في احتجاجات سلمية، اعتراضاً على رفع أقساط الدراسة. لحقتها بعد عام، بعد أن أمسك المحافظون الحكم، أعمالُ شغب عمّت البلاد، ما أدّى إلى تدخل الشرطة بعنف. لكن ما يحدث حالياً يأتي في ظروفٍ مختلفةٍ إلى حد كبير.
وضع ضاغط لم ينجم عن سياساتٍ معيّنة بقدر ما نجم عن افتقار لفعل سياسي مبرمج، يضع حداً للأزمات المتتالية
رغم أنّه سعى حثيثاً إلى استثمار أزماتٍ خارجية، وتحديداً في مواجهة بوتين، كهروب إلى الأمام، أخفقَ جونسون في مسعاه. أراد تكرارَ نجاح تاتشر في استرجاع جزر فوكلاند بعد أن احتلتها الأرجنتين، ما أدّى إلى فوزها في فترة ثانية، وتحجيمها المعترضين على سياساتها الاقتصادية. تبدو الأزمات الخارجية الراهنة بعيدة جداً عن بريطانيا. وأزمةُ المهاجرين لا يبدو، في الامبراطورية التي اعتادت يوماً على شمسٍ لا تغيب عن أطرافها المترامية، أن في مقدور الإدارة السياسية استثمارَها بعد خدعة "بريكست" التي انكشف أنها كانت ترويجاً قادتْها دوائرُ شديدة التطرّف أكثر من أنها حقائق تكفي مبرّراً للابتعاد عن أوروبا.
الظروف الراهنة أعمق من مجرّد صراع سياسي أو نزاع يمكن استثماره سياسياً. هناك وضع ضاغط لم ينجم عن سياساتٍ معيّنة بقدر ما نجم عن افتقار لفعل سياسي مبرمج، يضع حداً للأزمات المتتالية. بتعبير أوسع، تأتي الأزمة الحالية في ظل عجزٍ عن التحرّك لإنهاء الوضع المتدهور، فحزب المحافظين لم يقدّم في كل مناظرات المتنافسين على زعامته كثيراً عن برامج التغيير اللازم، بل مضى مرشّحوه في تدعيم الوضع الحالي، عبر التأكيد، ضمناً، على صعوبة تغييره. حتى ريشي سوناك، الأوضح رؤيةً اقتصادياً، لم يكشف عما يكفي، مكتفياً ببعض الوعود مع كثير من فقدان الحيلة.
حزب العمال هو الآخر، مع معارضته ومحاولاته المستمرّة إجراء انتخابات مبكرة، يفتقر لرؤية صريحة. أخفق زعيمه في إظهار كثير من المهارات القيادية برغم فرصة ساحنة. والتوازنات داخل الحزب أرهقته، خصوصاً الصراع على الموقف من زعيمه السابق، جيرمي كوربِن، المتهم سابقاً بمعاداة السامية، والذي بدا، في تقرير أخير للتحقيقات داخل الحزب، أنه كان ضحية خصومه وحلفائه أكثر من أنه مذنب، فالعمّال، قبل كل شيء، متهمٌ حزبُهم بازدواجية المواقف فيما يتعلق بالخروج من الاتحاد الأوروبي، إذ لم يتخذ موقفاً صريحاً، بل بقي على التل أو متأرجحاً مع الريح. كما أن فترة قيادة كوربِن الحزب اتسمت بأولوية المواقف الخارجية على مشكلات البلاد الداخلية، ما أدّى إلى اندفاعه نحو اتجاهاتٍ لا يمكن أن تنسجم مع طبيعة السياسات البريطانية. عدا عن هذا، أثارت التوجهات الماركسية للرجل المخاوف في بلد محالٌ أن تجمعه بالشيوعية مودّةٌ. هذه العوامل وغيرها تجعل النشاط النقابي الجديد مختلفا إلى حد ما. فتحرّك "كفى"، التي انضم إليه مئات آلاف البريطانيين في وقت قياسي، بلا أدنى اهتمام بالقيادة الرئيسة لحزب العمال بنسختها الحالية، من أهم المؤشّرات على أنّ الوضع لا يعتمد، بدرجة رئيسة، على السياقات التقليدية التي اعتادتها البلاد.
من الصعب افتراض نجاح "كفى" أو غيرِها في إحداث متغيّر كبير في بلاد مستقرّة
لا ينفي هذا وجود جناح عمّالي مشارك في الحملة، وربما متهم بالوقوف وراءها. تشير المعطيات إلى جناج كوربن لاعباً مهما، وبمشاركة فاعلة لزارا سلطانة، النائبة القريبة من توجّهات الزعيم العمالي السابق أيضاً. يمكن فهم ذلك محاولةً حزبيةً للاستثمار في فعل نقابي، غير أنّ مشاركة العمال بوصفهم طبقة، وليس تنظيماً سياسياً، وعدمَ قدرة حزب العمال على ملاحقة الوقائع، هما الإيقاع الأوضح.
خسر الحزب في عام 2021 مائة ألف عضو، ما يشي بتراجع ثقة الطبقة العمالية بالتنظيم السياسي الحامل اسمَها. وأظنّ أن التحرّكات النقابية أخيراً، في جوهرها، إضافة إلى رفضٍ كامل لحكم حزب المحافظين، تُبرز كذلك انتفاضةَ العمّال على حزبهم، خصوصاً إذا ما أخذنا بالاعتبار ما تردّد، أخيراً، عن وجود بوادر انشقاق داخل هذا الجسد الحزبي على شكل تأسيس تنظيم سياسي عمالي جديد يُحرج ثاني أكبر القوى السياسية في البلاد، وربما يقوّض وجوده على مدى متوسط.
في هذا المدى، من الصعب افتراض نجاح "كفى" أو غيرِها في إحداث متغيّر كبير في بلاد مستقرّة. خصوصاً أن نمط العلاقة بين السلطة والمجتمع قائمٌ على تقاليد معتدلة منذ أواخر القرن السابع عشر. ربما أنّ الحراك الراهن، ما دام خاضعاً لترتيب منظّم وتوجيه مركزي، هو صمّام أمان من أن تفلت الأمور، وتذهب إلى مديات غير متوقعة، فهناك ما هو أكثر أمناً وسلاماً من تغيير ثوري على الطريقة الفرنسية يكون مخيفاً إن حصل. هو إعادة إحياء جماعات الضغط المدنية أو المجتمعية القادرة على التلويح بالثورة من دون أن تنفجر، لتبقى قادرةً على إجبار السياسي على تعديلات خوفاً مما هو أكبر، وكذلك لتظلّ مؤثرةً في مزاج الناخب، باعتباره أهم لاعبٍ تعوّل عليه الديمقراطية البريطانية.