العلمين عالمان

26 اغسطس 2024
+ الخط -

يتعرّض المواطن المصري لهجمة إعلامية وإعلانية تلاحقُه على مختلف القنوات الفضائية التابعة للدولة المصرية وأجهزتها. مضمون تلك الهجمة هو ترويج مدينة العلمين الجديدة التي أصبحت العاصمة الترفيهية الرسمية في مصر. والشعار الرئيس لتلك الحملة "العالم عَلَمين"، في إسقاط بلاغيٍّ إلى أن "العالم" اختُزل في مدينة العلمين، الجديدة. بينما الواقع فعلياً أن المجتمع المصري بات مقسوماً إلى نصفين، لكل منهما تركيبته البنيوية وخصائصه السوسيولوجية، وتجسّد مدينة العلمين الجديدة نموذجاً فجّاً لذلك الانقسام. ووجه الفجاجة ليس في فارق المستويين، المادي والثقافي، لأهل تلك المدينة وروّادها من المصطافين، مقارنةً ببقيّة مكوّنات المجتمع المصري، وخصوصاً الموجودين هناك في المدينة ذاتها من عامليْن، فذلك أمر معتادٌ داخل الأماكن والمناطق الراقية والمرفّهة، حيث يجتمع السادة والخدم.. علية القوم وعوامّهم. إنما يكمُن وجه الفجاجة الصارخ، في استفزاز الإعلانات وموجات الدعاية المكثفة، للمواطن المصري البسيط، والإلحاح عليه في اللحاق بذاك المحفل الأرستقراطي وفعالياته الترفيهية. بينما ذلك المواطن المُستهدَف ينتمي، في أحسن الأحوال، إلى الطبقة المتوسطة، التي تدهورت أحوال أصحابها حتى انزلقوا، جميعاً تقريباً، إلى الطبقة الدنيا الفقيرة.

المفارقة ذاتها حاصلة داخل التجمّعات السكنية الراقية، لكن كلاً منها مغلقٌ على من فيه، سواء قاطنوه من الأغنياء أو مرتادوه من الفقراء بحكم عملهم. بل إن بعض أولئك الفقراء يعتبرون ارتباط وظائفهم وأرزاقهم بتلك الطبقة الراقية مدعاةً للزهو أمام أهليهم وأقرانهم من الطبقة الدنيا الفقيرة.

أما في حالة "العلمين" فالأمر مفضوح، والمقارنة المؤسفة مُعلنة بلا خجل ولا وجل. ويجري التركيز إعلامياً وبكثافة مدهشة، لحثّ المواطنين على الذهاب إلى هناك والمشاركة في مهرجانات وفعاليات ومسابقات. حتى أن البرامج الحوارية تُسهم في تلك الحملة، وتُذاع فترات بثّ مخصّصة لنقل الحفلات الغنائية ولقاءات حصرية مع النجوم والمشاهير. وإذا تَوهَّم أي مواطنٍ بسيطٍ من بقايا الطبقة المتوسطة، أو تخيّل، في عقله الباطن، إمكانية الذهاب إلى هناك، سيُفيقه عقله الواعي من أحلامه وخيالاته بسؤال مبدئيٍّ منطقيٍّ عما سيعود عليه إن فعل. والإجابة هي لا شيء، وبدقّة أكثر، لا شيء سوى الاصطياف على شاطئ المتوسط الذي لا يختلف جوهرياً عن مصيف آخر. بل سيجد المواطن نفسه مطالباً بدفع مبالغ أعلى مما يتخيّل. بدءاً بأسعار الإقامة التي تفوق في الليلة راتب المواطن المصري متوسّط الدخل في شهر كامل. مروراً بالحفلات الغنائية التي وصلت رسوم حضورها إلى عشرة آلاف جنيه مصري (200 دولار) للفرد الواحد، فضلاً بالطبع عن مصروفات الانتقال والملابس والمظهر اللائق بأهل "العلمين" الجديدة. أما إذا أراد المواطن المصري العادي الالتحاق بجوقة العلمين، والانضمام إلى مريديها، فعليه المشاركة في أنشطة سفيهة، مثل عرض لأزياء الكلاب أو سباق للسيارات الفارهة.

الإصرار على هذه الحملات الدعائية والترويجية للاصطياف والاستجمام في العلمين الجديدة يعني أن أصحاب القرار، ومن خطّطوا لتلك الحملات الموجهة، يُخاطبون شريحة مجتمعية معينة بتلك الحملات وببناء المدينة كلها من الأساس، فرجال الحكم على وعي كامل بما يجري في المجتمع من تحوّلات، ويعرفون عن كل فرد في المجتمع كم قرشاً يقبض، وكم جنيهاً يصرف، وكيف يستدين ليكمل شهره وربما يومه.

ولا معنى لتوجيه إعلانات "العلمين" الجديدة واستفزازاتها خصّيصاً للفقراء، سوى الإمعان في مكايدتهم وإبراز الفجوة الشاسعة بينهم وبين الأغنياء، وتكريس الشعور لديهم بالدونية والإقصاء عن المجتمع الراقي المرضي عنه والمرغوب سلطوياً. ومعنى ذلك كله أن تلاشي الطبقة الوسطى واقتصار المجتمع المصري على طبقتين تمثّلان "عالميْن" متناقضين ليس أمراً عفوياً، ولا مصادفة. وإنما هو توجّه مقصود بأساليب مدروسة لتعميق الشقوق والشروخ في جدران المجتمع.

58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.