العزل السياسي وارد في تونس

05 سبتمبر 2022
+ الخط -

بعدما استتبّ له الوضع، يحرص الرئيس التونسي، قيس سعيّد، على أن يكون اللاعب الأوحد في مشهد سياسي لا يخلو من عبثية. للتونسيين غرام وولع بمسرحيات "الوان مان شو" (مسرحية الممثل الواحد)، وهو جنس من الأعمال الفنية التي حولها خلافٌ حادّ إن كانت تنتمي إلى المسرح أم لا، وبشأن خلفياتها ودوافعها وجمالياتها. منذ أكثر من ثلاثة عقود، اكتشف التونسيون في أعمال الفنان الكوميدي الأمين النهدي هذا الجنس الفني من دون إغفال ما أضافه في ما بعد المسرحي الفذ توفيق الجبالي، الذي يذكُره التونسيون بـ "كلام الليل"، وهي سلسلة أعمالٍ مسرحيةٍ لا تخلو من عبث... ليست لغواً، رغم ما يوحي به اسمها، إنما حكم وهذيان عميق، يفضح ما في بواطن التونسي وسراديبه النفسية والعاطفية. إنّه انفجار يتسرّب فيها ليلاً المخفيّ، ويطفو على الخشبة حركة وكلاماً وإيماءات خارج أي تقدير منضبط لأركان المسرح الكلاسيكي.
الرئيس سعيّد مولّه بـ"وان مان شو" السياسي. يكتب النصّ بمفرده، ويخرج المشاهد ويمثلها ويشاهدها منفرداً أيضاً. ليست له أي رغبة في أن يُقاسمه أحد الدور. ضاق النظام الأمني، أخيراً، بالفنان لطفي العبدلي، صديق الرئيس، حين بدأ عرض مسرحيته الـ"وان مان شو" فغادر البلاد، وكانت تلك شرارة المواجهة الجارية بين الرئيس ووزير داخليته من جهة ونقابات أمنية شبه متمرّدة حالياً من جهة ثانية.

يشتغل الرئيس منذ أكثر من سنة من دون مدير ديوان أو ناطق رسمي، فهو يصرّ على أن يكون اللاعب الوحيد الذي لا يمثله أحد

كالعادة، يصرّ سعيّد على استراتيجية المباغتة، فلا شيء نشر رسمياً عن قانون الانتخاب، رغم أنّ أسابيع معدودة تفصلنا عن موعد انتخابي عيّنه الرئيس، من دون أن يستشير أحداً، وهو يوم 17 ديسمبر/ كانون الأول الموافق عيد الثورة الثاني عشر. يشتغل الرئيس منذ أكثر من سنة من دون مدير ديوان أو ناطق رسمي، فهو يصرّ على أن يكون اللاعب الوحيد الذي لا يمثله أحد، فهو لا يؤمن بالأجسام الوسيطة، إنّه يخاطب شعباً قد حلّ في روحه! الوسيلة الوحيدة التي تصدر فيها مواقف عن رئاسة الجمهورية صفحة الرئاسة على "فيسبوك" التي عمدت بعض البيانات إلى تعديلاتٍ من حين إلى آخر. هذه الاستراتيجية مهمة، لأنّها تمنح الرئيس إمكانية التعديل أو التنكّر أصلاً لما ورد، وقد حدث هذا مرّات عدة.
يشتغل الشرّاح/ المفسّرون على شاكلة مقاولين "متطوّعين" يستبقون القول الرئاسي بالتبشير بأفكارٍ يبدو لهم أن الرئيس مقبلٌ على طرحها. ولهم أيضاً وظائف عديدة، لعل إحداها إطلاق بالونات اختبار، يتحسّس الرئيس من مواقف الناس والمعارضة على حد سواء من مشاريعه، حتى إذا تبيّنت له معارضةٌ ما عمد إلى العدول عنها، من دون أن يتورّط فيها بشكل مباشر. والوظيفة الثانية للشرّاح المفسّرين، وكان كاتب هذا المقال أول من اكتشفهم في أثناء "الحملات التفسيرية" للرئيس خلال محطاته البارزة بعد الانقلاب، على غرار الاستشارة الإلكترونية أو الاستفتاء أخيراً على دستور الرئيس. بدأ هؤلاء منذ أيام قليلة يسرّبون بعضاً من ملامح القانون الانتخابي، لعلّ أهمّها ما يمكن أن يرد فيه من أشكال متخفية من العزل السياسي تحت لافتاتٍ عديدة، لعلّ أبرزها الفساد السياسي والمالي. تدفع جهاتٌ في هذا الاتجاه، ذلك أنّها غير مطمئنة إلى ألّا تعود بعض القوى السياسية، ولعلّ أهمها حركة النهضة والحزب الدستوري الحر، إلى واجهة الحياة السياسية، بقطع النظر عمن تكون قد خسرته من شعبيةٍ عبر صناديق الاقتراع، بقطع النظر عن طبيعة القانون ونظام الاقتراع.

مشاعر الإحباط وفقدان منسوب الثقة والأمل في وضع أفضل ترتفع بشكل حاسم

الأكيد أنّ الرئيس سعيّد يشعر بكوابيس عديدة، لعلّ أهمها عودة أحزاب المنظومة القديمة، كما يحلو لأنصاره أن يسمّوها، خصوصاً في ظلّ تراجع شعبيته، وارتفاع منسوب الغضب من ارتفاع الأسعار وتدهور الخدمات. تفيد نتائج استطلاع آراء أخيراً بأن مشاعر الإحباط وفقدان منسوب الثقة والأمل في وضع أفضل ترتفع بشكل حاسم. ولذا، لا يغفل الرئيس عن إمكانية عودة هذه الأحزاب، سواء كان نظام الاقتراع على الأفراد أو القوائم، وإن تشير التسريبات نفسها إلى أنّه من الأرجح أن يستبعد القانون الانتخابي، بوضوح، الأحزاب، حتى يطمس هويتها مقابل تصعيده إلى نخب سياسية وبرلمانية جيدة قادمة من خارج جلباب الأحزاب، مستندة في ذلك إلى امتدادها القبلي/ العروشي في مناطق الجنوب والوسط أو شبكة القرابة ومختلف الروابط الزبونية والشللية الأخرى التي من شأنها أن تفسد، أكثر من أيّ وقت مضى، مبدأ التمثيلية التي يعاديها الرئيس، ويحمّلها شرور الديموقراطية كلها.
هناك توجّهان يحيطان بدوائر النفوذ داخل محيط الرئاسة، يسعى الأول إلى أن يتضمّن القانون إعفاء واضحاً لكل من تحمّل مسؤوليات سياسية تنفيذية أو تشريعية أو حتى إدارية خلال العشرية المنقضية، في حين يتّجه آخرون، وبشكل بيداغوجي وبراغماتي، في الآن ذاته، إلى أن تتوسّع فترة العزل المشمولة لتصل إلى سنة 1991، تاريخ أول انتخاباتٍ جرت في عهد بن علي. ويخفف هذا الحلّ الحرج على الرئيس، حتى لا يبدو مستهدِفاً حركة النهضة بالذات، بل يتّسع الأمر بشكل ممنهج، ليشمل أيضاً وريثة حزب التجمع الدستوري عبير موسي و"العائلة الدستورية" عموماً، رغم ما تثيره هذه المسألة من ردود فعل داخل هذه العائلة الموسّعة والمشتتة. بهذا الشكل، يتمكّن الرئيس من استبعاد أشرس خصمين سياسيين له، حتى يستفرد بالمشهد السياسي، ويُحكم قبضته على الساحة السياسية، وكلّ مؤسسات مرحلته الجديدة: مجلس نواب الشعب والحكومة وغيرهما من مؤسّسات دستورية صاغ ملامحها سعيّد نفسه في دستوره الجديد.
يُقبل التونسيون على مسرحيات "الوان مان شو" للضحك والترفيه، فالنصّ سطحي، ولكنه عامر بالنكات والطرائف التي لا تخلو من غباء وسماجة. ولكن أن يتحوّل هذا الغرام إلى "الوان مان شو" السياسي، فإنّ الأمر لمحزن، وباعث على الحيرة والخوف.

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.