العروبة الأخرى

22 ديسمبر 2022
+ الخط -

أعاد مونديالُ قطر فكرةَ العروبة إلى الواجهة، بعد عقود من التراجع، بسبب ما آل إليه المشهد العربي العام من تردٍّ معلوم. ولا شك في أن انبعاثها، بذلك الشكل العفوي الذي عاينّاه طوال أيام المونديال، يربك ما خلناها بداهاتٍ ترسّخت بشأن تفكُّك ما يجمع شعوب المنطقة من أواصر متينة، وانحسارِ الفكر الوحدوي بعد أن انتهى به المطاف إلى مقولاتٍ أيديولوجية جوفاء تُوظَّفُ لخدمة الأجندات القُطْرية والطائفية والقبلية، هذا إضافة إلى غيابِ الحدّ الأدنى لما يُمكن أن يجمع الأنظمة العربية بشأن مستقبل الإقليم، في ضوء ما يشهده العالم من متغيرات، يصبّ معظمها في إعادة صياغة التوازنات الجيوسياسية في العالم، من دون مراعاة لمصالح شعوب المنطقة وتطلعاتها.
لم تعد الشعوب العربية تكترث بما يُلاك في المؤتمرات والمنتديات الرسمية بشأن مركزية القضية الفلسطينية ووحدة المصير المشترك، وحرص النظام العربي الرسمي على الدفاع عن مقدّرات الأمة ومصالحها، ولا سيما بعد أن ذهبت أنظمة عربية بعيداً في انسلاخها عن الثوابت الفلسطينية بتطبيعها مع الكيان الصهيوني، وهو ما رأت فيه هذه الشعوب انتكاسةً أخرى تكرّس الحالة العربية الميؤوس منها.
ضمن هذا السياق، كان تنظيم دولة قطر مونديال 2022 تحدّياً لاختبار مدى احتفاظ فكرة العروبة بذلك التوهج الذي رافقها قبل عقود. ويمكن القول بأنه لا أحد توقع أن تستعيد هذه الفكرة توهجها، وبالأخص مع بداية المونديال، حين تعرّضت قطر لحملة إعلامية غربية ممنهجة على خلفية ''انتهاكها'' حقوق العمّال ومنعها علم المثليين ورموزهم من التداول، في مسعى لإرباكها وخلط الأوراق حولها. وقد كان لنجاحها المبهر في تنظيم حفل الافتتاح أثره في انكفاء الحملة الغربية، في ظل وقوف الرأي العام العربي وطيفٍ عريضٍ من النخب الإعلامية والثقافية العربية معها، بعد أن أصبح الأمر يتعلق بالمرجعيات القيمية والثقافية؛ لقد بدا واضحاً للجميع نفاق وسائل الإعلام الغربي وافتقادها الحدّ الأدنى من الموضوعية وزيف ادعاءاتها.
ومع بدء المباريات، أعادت الجماهير العربية، الحاضرة في قطر، القضية الفلسطينية إلى دائرة الضوء. أولاً برفض مشجّعين عرب التواصل مع وسائل إعلام إسرائيلية، وثانياً بتحويل العلم الفلسطيني إلى أيقونةٍ في شوارع قطر وملاعبها، وهو ما بلغ ذروته مع حمله من لاعبي المنتخب المغربي وإنزاله من المدرّجات إلى أرضيات الملاعب، في إشارة لا تخلو من دلالة. لقد بدا حضور هذا العلم، بكل رمزيته، رسالة موجّهة إلى من يهمه الأمر في المنطقة؛ رسالة تعكس إجماعاً شعبياً جارفاً لا تزال فلسطينُ تحظى به، ورفضاً لمخرجات التطبيع ودحراً للرواية الإسرائيلية بشأن الصراع.
بالتوازي مع ذلك، لم تبخل هذه الجماهير على المنتخبات العربية بالتشجيع والمؤازرة. ولم يكن مستغرباً أن يصطفّ المشجّعون العرب خلفها من دون حساسيات قُطْرية وجهوية. وفيما كان الجميع يتوقع عدم ذهاب هذه المنتخبات بعيداً في المنافسات، كسر المنتخب المغربي كل التكهنات، وقدّم عروضاً كروية رائعة، وأطاح منتخباتٍ أوروبيةً عتيدةً، بحجم منتخبات بلجيكا وإسبانيا والبرتغال، قبل أن تتوقف مسيرته أمام المنتخب الفرنسي (وصيف بطل العالم) في نصف النهاية، ويحتلَّ المركز الرابع بعد خسارته، مباراة الترتيب، أمام نظيره الكرواتي. لقد شكّل الالتفاف الجماهيري العربي حول المنتخب المغربي حالةً شعبية وجدانيةً وفريدة، وبدا الاحتفاء بانتصاراته إحياءً جادّاً لمشاعر العروبة من دون مزايداتٍ حزبية وأيديولوجية.
في الختام، تُغري هذه الفورة العروبية العفوية (العابرة؟) التي كان مونديال قطر مسرحاً لها، بوقفةٍ متأنية لتحليل طبيعتها وأسبابها وآفاقها بعيداً عن الأحكام الجاهزة التي كرّسها تواترُ الخيبات والانكسارات نتيجة ما آل إليه الوضع في المنطقة، بعد أفول شمس الربيع العربي، وانزلاق بلدان عربية إلى الاقتتال الأهلي، وتقديمِ النخب الحاكمة مصالحَها الخاصة على مصالح الأمة، وتمددِّ الاستبداد الجديد، وتفشّي الفساد، والإخفاق المريع في اجتراح حلول ناجعة للأزمات الاجتماعية والاقتصادية المتراكمة.