العرب والحرب الروسية الأوكرانية

01 مارس 2022
+ الخط -

تختلط السياسة بالجغرافيا، وتتعداها على التاريخ والهوية والدين، لم يعد هناك فكاكٌ من أن نرى أنفسنا، نحن سكان الكوكب، وكأنّنا في مركبٍ واحد، لم يعد من المقبول بعد اليوم، أو ربما بعد سنوات عشر لا أكثر، أن نقول إنّ تلك الحرب تجري بعيداً عن ديارنا، نحن أهل الحروب وساحتها ووقودها دوماً.
ثمّة عالم يتشكل بطريقة متسارعة، لم تخطر على بال الذين كتبوا قصص الفانتازيا والعجائبيات، ولا قصص الخيال العلمي؛ عالم ما بعد لعبة السياسة العالمية، كما تحدّث عنها أولريش بيك في كتابه "السلطة والسلطة المضادّة في عصر العولمة".
بدأت الحرب الروسية على أوكرانيا، وسريعا وجد العرب أنفسهم في خضم هذا الصراع الذي يجري على بعد آلاف الكيلومترات عن ديارهم، إلّا أنّهم وجدوا أنفسهم مندفعين ومتورّطين فيه، فمقتضى اللعبة العالمية في سياسة ما بعد العولمة يقتضي أن يكون الكل منخرطاً في قضايا الكل. هو عالم يتشكّل بسرعة، تحدّد له مافيات المال والسلاح والتكنولوجيا أطره الجديدة، فهنا لا مكان ولا زمان، لا حدود لجغرافيا السياسة والنفوذ، فما تراه اليوم بعيداً عن حدود نظرك، وليس جغرافيتك فحسب، سيترك ندوبه على وجه الأحداث التي تتقاسمها مع أبناء الحي الواحد الذي تسكن فيه.

سنشهد مزيداً من التداعيات ومن التداخلات، وصولاً إلى بلورة عالم جديد، لا مكان فيه لمفاهيم السياسة القديمة وقواعدها

أجهزة السياسة العالمية القديمة التي تطبق القواعد التي جرى التوافق عليها عقوداً تداخلت مع العالمية الجديدة التي تسعى إلى تعديل القواعد، كما يقول أولريش بيك في كتابه، ما يعني أنّنا سنشهد مزيداً من التداعيات ومن التداخلات، وصولاً إلى بلورة عالم جديد، لا مكان فيه لمفاهيم السياسة القديمة وقواعدها، فالأطر التي تسعى إليها ولتعديل قواعدها العالمية الجديدة، ستضمحل أمامها مفاهيم كثيرة، قومية ووطنية وتاريخية، وجغرافية أيضاً، فأنت اليوم، أو على الأقل في منظور السنوات العشر المقبلة، ستكون جزءاً من الكوكب، بكلّ ما يمرّ به، لن تكون هناك حرب أنت مستثنىً منها، ولا سلام أنت لا تشعر به، قواعد تسعى إلى المواطن العالمي، الشريك في كلّ شيء، كيف لا وهذا المواطن العالمي هو هدف كبريات الشركات العالمية التي تدير أصولاً بمئات مليارات الدولارات.
اندلعت الحرب الروسية على أوكرانيا. يقول العراقيون إنّها أول حرب ليسوا ساحة لها منذ عقود خلت. في سورية، وجد أنصار الثورة على النظام الأسدي فرصتهم للتشفّي ببوتين وجيشه. وفي مصر، تعيد الوزارات المعنية حساباتها؛ كيف لمصر أن تجد قمحها في حال استمرّت الحرب، وهي التي تستورد الجزء الأكبر منه، سواء من روسيا أو من أوكرانيا، ليعيد أنصار الرئيس محمد مرسي، أول رئيس مصري منتخب، ومات في سجنه عقب انقلاب 30 يونيو/ حزيران (2013)، مقاطع له إبّان عام رئاسته، وهو يتحدث عن ضرورة أن تأكل مصر مما تزرع، يومها كان يقف وسط حقل من الحنطة.
ولن يقتصر ضرر حرب اليوم بين روسيا وأوكرانيا على قطاع دون آخر، فبينما يعتقد بعضهم أن شرر هذه الحرب لن يطاول بلاد العرب، بحكم بعدها الجغرافي نسبيا، هناك من يرى أن العرب، بحكم غيابهم الفعلي عن التأثير السياسي على الملعب الدولي منذ عقود، سيكونون أكثر المتضرّرين منها. فأيا ما كانت نتيجة هذه الحرب، فإنّها ستنعكس على خريطة التحالفات التي شكلتها الأنظمة العربية خلال عقود، سواء بالارتماء الكامل في الحضن الأميركي الغربي، أو بمحاولة بعض هذه الأنظمة استبدال هذا الحضن بدفء الدب الروسي، على اعتبار أنّ الأخير أكثر مصداقية في تعامله معهم.

لم يعد هناك من مناص من ضرورة أن تعيد أنظمة عربية كثيرة النظر في تقاليدها السياسية القديمة

يتشكل اليوم عالم جديد. ما تفرزه الحرب الروسية على أوكرانيا يدفع، بشكل متسارع، في اتجاه هذا العالم الذي تتلاشى فيه القواعد القديمة للسياسة لصالح قواعد أخرى، يجري العمل على إعدادها؛ أبطالها شركات ومصالح كبرى، تلك التي أفقدت حلف الناتو، وحتى واشنطن، القدرة على الحركة الكاملة حيال ما قام به بوتين من عملية غزو مدانة لأوكرانيا. فالأوليغارشية الروسية التي نشأت في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي السابق ساهمت مساهمة كبيرة في أن تجد لها موطئ قدم في هذا العالم الجديد الذي يتشكّل، حتى أنها حاصرت دول أوروبا وأميركا، وقيّدت كثيراً من حركتهم تجاه أيّ عقوبات كبرى يمكن أن تُفرض على موسكو، فرؤوس الأموال التي أفرزتها هذه الطبقة باتت متغلغلة إلى حدّ كبير في كبريات الاقتصادات العالمية. وبات من الصعب معاقبتها، لأنّ أيّ عقوبات ضدها سترتد على الأنظمة الاقتصادية لبلدان أوروبا وحتى أميركا، ناهيك طبعاً عن الغاز الروسي الذي كبّل كثيراً من خطوات أوروبا تجاه ساكن الكرملين.
سيحتاج العرب، وهم الغائب الحاضر على ساحة الأحداث، ثورة في التعامل مع تقاليد سياسة جديدة تترسّخ وتتشكّل. لم يعد هناك من مناص من ضرورة أن تعيد أنظمة عربية كثيرة النظر في تقاليدها السياسية القديمة. عليها أن تلحق بركب المعادلات والتحالفات التي تنشئها وتقوم بها، ليس الأنظمة الحاكمة في الغرب فحسب، وإنما كبريات الشركات التي شكلت سلطة مضادّة للسلطة التقليدية التي نعرفها، فاليوم يمكن أن تكون قوياً ليس بتحالفك مع هذه الدولة العظمى أو تلك، وإنّما أيضاً من خلال تحالفك وشراكتك مع شركات فاعلة على الساحة الدولية، فهذه اليوم بمثابة السلطة المضادّة التي تحكم حتى أفعال السلطة التقليدية.
يقول صاحب كتاب "السلطة والسلطة المضادة" إنّ العولة، وليست الدولة، هي التي تحدّد (وتعدّل) الميادين التي يدور فيها العمل الجماعي. ومن هنا، لا بدّ من استدراك بعض ما فاتنا، نحن العرب، فقد كنا دوماً حبوب الرحى التي لطالما طحنتنا صراعات الغير، وأن تبدأ الدولة بالتفاهم مع السلطة المضادّة تلك التي تسعى إلى تعديل قوانين السياسة العالمية، قبل أن تغمرنا سياسة الإغراق مرة أخرى لنجد أنفسنا خارج سياقات النفوذ والعمل، كما كنا لسنوات خلت.

96648A48-5D02-47EA-B995-281002868FD0
إياد الدليمي
كاتب وصحافي عراقي. حاصل على شهادة الماجستير في الأدب العربي الحديث. له عدة قصص قصيرة منشورة في مجلات أدبية عربية. وهو كاتب مقال أسبوعي في عدة صحف ومواقع عربية. يقول: أكتب لأنني أؤمن بالكتابة. أؤمن بأن طريق التغيير يبدأ بكلمة، وأن السعادة كلمة، وأن الحياة كلمة...