عراق المُخبِر السرّي
بين يديَّ عمل أدبي غير منشور بعنوان "المُخبِر السرّي" أرسله إليّ أديب وصحافي عراقي شاب دفعته ظروف عمله ليكون قريباً من السجون. عمل أدبي يُؤرّخ ويُوثّق مرحلةً قاتمةً من تاريخ هذا البلد، الذي تتنازعه المراحل القاسية، وكأنّها قدره الذي لا فكاك منه.
ستتعرّف في "المُخبِر السرّي" إلى حياة عراقيين كثيرين وجدوا أنفسهم وراء القضبان، لا لشيء، سوى لتهمة بائسة أطلقها عليهم مُخبِر سرّي يعمل لدى الحكومة، تعرف، قبل غيرها، أنّه أداة للقمع، أداة للموت والاعتقال وتصفية الخصوم، فكثيرون من ضحاياه لم يقترفوا ذنباً، ولم تكن لهم علاقة بما شهده هذا البلد في مدار عقدين، منذ اللحظة التي دخلت فيها دبّابات المُحتلّ الأميركي دار السلام، مبشّرة العراقيين بزمن الديمقراطية والحرّية.
هنا سجين مضى على اعتقاله أكثر من عقدٍ ونيّف، حُبِسَ احتياطياً من أجل عقد القمّة العربية في بغداد عام 2012. لاحقاً، وعقب انتهاء القمّة، لم يفرج عنه، بل بدأ يتحوّل رقماً، اختفى الاسم وصار يباع ويشترى بين ضبّاط السجون، بعد أن أُلصقت به تهمةٌ وصدرت في حقّه مُذكّرة اعتقال، وهو الذي كان قد أمضى نحو ثلاثة أعوام في السجن، ثمّ لاحقاً، وبعد اعترافات انتزعت تحت سياط التعذيب، حُكم عليه بالإعدام، وربّما نفّذ فيه الحُكم أو ليس بعد، إلّا أنّه في الحالتين لم يعُد موجوداً، بل ينتظر أن ينتهي فصل معاناته حتّى لو كانت النهاية أن يتدلّى مشنوقاً من حبال الموت التي نصبها للعراقيين نظامهم "الديمقراطي".
بحسب تقريرٌ المفوّض السامي لحقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة فإنّ هناك نحو ثمانية آلاف عراقي ينتظرون تنفيذ حُكم الإعدام فيهم
شهدت سجون العراق خلال الشهرين الماضيين أوسع حملة إعدامات نفّذتها الحكومة العراقية منذ أعوام، إعدامات طاولت أبرياء، باتفاق الجميع، وقّع تنفيذها الرئيس العراقي، عبد اللطيف رشيد، بعد أن امتنع من سبقه، من فؤاد معصوم إلى برهم صالح، عن توقيع مثل هذه المراسيم لأنّهم يعرفون، قبل غيرهم، أنّ غالبية من تصدُر في حقّهم أحكام الإعدام أبرياء، وأنّ واقع السجون العراقية مُزرٍ وأنّ العدالة فيها أكذوبة.
قبل أيام، صدر تقريرٌ من المفوّض السامي لحقوق الإنسان التابع للأمم المتّحدة بشأن واقع السجون العراقية وحملة الإعدامات المتسارعة، التي تنفّذها السلطات العراقية، وهو ربّما أكثر التقارير الأممية وصفاً للواقع وأقساها على حكومة بغداد، إذ وصف الخبراء الأمميون حملة الإعدامات تلك بأنّها قد ترقى إلى جرائمَ ضدّ الإنسانية.
يضيف التقرير، الذي استفزّ حكومة بغداد حتّى سارعت لتشكيل لجنة للردّ عليه، أنّ هناك نحو ثمانية آلاف عراقي ينتظرون تنفيذ حُكم الإعدام فيهم، فقال الخبراء الأمميون: "عندما تكون عمليات الإعدام التعسّفية في نطاق واسع ومنهجي، فإنّها قد ترقى إلى مستوى الجرائمِ ضدّ الإنسانية، ما ينطوي على مسؤولية جنائية لأيّ مسؤول متورّط في مثل هذه الأفعال، بشكل مباشر أو عن طريق الموافقة". ويتحدّث التقرير الأممي، ليس عن تعرّض السجناء المحكوم عليهم بالإعدام لألم ومعاناة نفسية شديدين فحسب، بل أيضاً، تعرّضهم لتعذيبٍ شديدٍ وسوء معاملة في سجن الناصرية سيئ الصيت، فلا مياه نظيفة ولا غذاء ولا رعاية طبّية، الأمر الذي يؤدّي إلى وفياتٍ مُبكّرة في أثناء الاحتجاز. ولا تنقضي عجائب الحُكم الديمقراطي في العراق عند هذا الحدّ، فهناك معاناة لم يتطرّق إليها تقرير المفوّض السامي لحقوق الإنسان، معاناة مُستمرّة منذ عقدين ونيّف، تتلخّص في أنّ غالبية من يتعرّضون لعمليات الإعدام هم من أهل السُنّة، ومعظمهم محكومون بتهم الإرهاب، جاءت بهم وشايات المُخبِر السرّي، في حين أنّ هناك آلافاً أخرى من هذا المُكوّن جرى تغييبهم منذ نحو عقد إبّان عمليات التحرير التي نفّذتها القوات الحكومية والمليشيات ضدّ عناصر تنظيم الدولة الإسلامية (داعش).
لم يتحوّل القضاء في العراق أداةً في يد السلطة السياسية فحسب، وإنّما أيضاً في يد سلطة الأحزاب المُتنفّذة ومليشياتها، التي تمتلك كثيراً من النفوذ السياسي والأمني والعسكري داخل العراق، فرغم أنّ عشرات الجرائم ترتكبها يومياً عناصر هذه المليشيات، إلا أنّ هذا القضاء لا يَجرُؤ على محاكمة أيّ عنصر من عناصر تلك المليشيات أو اعتقاله.
لم يتحوّل القضاء في العراق أداةً في يد السلطة السياسية فحسب، وإنّما أيضاً في يد سلطة الأحزاب المُتنفّذة ومليشياتها
لا يبني القضاء العراقي بوضعه الحالي دولة. مُقترَح عضو الكونغرس الأميركي مايك والتز، الذي لم يتحوّل بعد قانوناً، يتّهم رئيس مجلس القضاء العراقي، فائق زيدان، ومجلسه القضائي، بالدفاع عن مصالح إيران، ومساعدة المليشيات الموالية لها، للحصول على موطئ قدم في البلاد، وهو المُقترَح الذي دفع كلّ مكونات العملية السياسية في العراق إلى إدانته ورفضه، لأنّها تستشعر خطورة هذه الخطوة التي تدينهم أيضاً، ولا تدين القضاء فحسب.
تتعالى صرخات عوائل المسجونين في العراق منذ سنوات من دون أيّ صدىً لدى الحكومة وسلطاتها التنفيذية والقضائية، فحتّى وزير العدل الحالي، خالد شواني، الذي تعهّد بتوفير نزاهة وعدالة في التعامل مع السجناء وملفّاتهم، أخفق كثيراً في التصدّي لملفّ هؤلاء، ممّن جعلت منهم الحكومات العراقية المتعاقبة حطباً لمشانقها وعدالتها العوراء، لأنّ الأمر أكبر منه في ما يبدو.
يحدّثنا المؤلّف في "المُخبِر السرّي" عن مشاهدات بطل الرواية وقائع كثيرة مؤلمة، يقول في أحد فصول الرواية: "المشانق لا تُنصَب للسجناء فحسب، إنّها تُنصَب للعراق ككلّ، فكلما قمت بنقل أوراق الإعدام من بغداد إلى سجن الناصرية شَعرتُ بذنب عظيم وكأنّي أنقل أوراق إعدام العراق وليس فقط لشباب أبرياء، وطالما حدّثت نفسي بأن أتمرد، غير أنّي أتذكّر أمي وما يمكن أن يطاولها من ألم وربّما تعذيب حتّى، فأتراجع. من ينقذ العراق من نفسه؟".