العراق يقرّر... العراق لم يقرّر
يصدُق القولُ إن العراق منذ عام 2005 يشهد ما معدله انتخاباتٍ أو احتجاجاتٍ أو استفتاءً سنوياً. في كل مرّة مسعى تغييرٍ، يقابله جهدٌ للاحتفاظ بالحال. تتنوّع الأسباب والدوافع لكل من الطرفين بتنوّع الضرورات والأوهام والأحلام والأيديولوجيات والمصالح.
في عام 2004، كنتُ منتجَ برنامجٍ سياسي أسبوعي عن الانتخابات في قناة الحرّة. اختارَ له مديرُها في بغداد، الراحل أحمد المهنا، عنوان "العراق يقرّر". غطّى البرنامجُ انتخاباتِ الجمعية الانتقالية المعنيّة بكتابة الدستور، إلى جانب أول انتخابات لمجالس المحافظات (بما في ذلك محافظات إقليم كردستان)، مطلعَ عام 2005. انتهى مع نهاية العام بتغطية انتخاب أولِ برلمان. وكانت، بين الموعديْن، عملية كتابة الدستور حتى الاستفتاء عليه في أكتوبر/ تشرين الأول من العام نفسه موضوعاً أساسياً للبرنامج. كشاب في مقتبل مشواره الصحافي بعيداً عن إعلام الحزب الواحد، اعتقدتُ فعلاً أن العراق يقرّر، وهكذا ظن مَن اختار اسمَ البرنامج، وكان صحافياً وكاتباً مخضرماً. عاش آخرون كثر داخل الوسط وخارجه الحلمَ ذاتَه.
مضت نحو 19 سنة. انتخابات جديدة جرت قبل أيام. استحقاقها محلي صِرف. الاقتراع يختار من سيدير الحكومات المحلية للمحافظات. أهميّتها ليست بقدر مثيلاتها النيابية، أقلّ بالطبع. إلا أنها ترسم معالمَ الإدارات الخدمية والسياسية المحلية في نظام لا مركزي، تُنافس العاصمة على التأثير فيه مدنٌ أخرى. لم تعد هي بغدادَ الفاعلة بدون انفعال، بل أصبحت بغدادَ المتأثرة بأربيل والنجف والبصرة ومناطق أخرى والمؤثرة فيها.
الانتخابات المستمرّة تعني أن فرصة التغيير قائمة، أو فرصة أن الشعب يقرّر موجودة
التأثير ليس فقط على مستوى الوضع السياسي الرسمي. الاحتجاجات نفسها كان للأطراف فيها دورٌ ملحوظ. اندلعت في العاصمة عام 2015 على وقع مقتل شابّ في احتجاجات شمالي البصرة. وكانت مظاهرات الأخيرة في 2018 سبباً مباشراً في خسارة رئيس الوزراء الأسبق، حيدر العبادي. كما شاعت تسمية عاصمة الانتفاضة أو الثورة لذي قار في احتجاجات تشرين 2019. من قبلها أثرت مظاهرات ساحات الاعتصام في الأنبار ومثيلاتِها سنة 2013 في التطورات السياسية والأمنية اللاحقة.
وسواء تأثرت العاصمة أم احتكرت التأثير، يبقى سؤال الانتخابات الأول، هل قرر فعلاً العراق، منتخباً أو متظاهراً؟ يمكن صياغة السؤال بطريقة أخرى، هل كان ظنُّ أولئك الحالمين بأن العراق يقرر في محله؟... قبل محاولة الإجابة، لا بد من تأكيد. أن يحصل أي بلد على فرصة متكرّرة لإجراء انتخابات أمرٌ جيّد، بصرف النظر عن أيّ ملاحظةٍ أخرى. الانتخابات المستمرّة تعني أن فرصة التغيير قائمة، أو فرصة أن الشعب يقرّر موجودة. لذا مجرّد وجودها بعيداً عن إخضاعها لإرادة شخص واحد يُبقي الأمل قائماً. قدرة الناس في كل دورة على ممارسة حقهم أن يختاروا سياسياً هي أفضل في كل الأحوال من أن يفقدوا خياراتهم سياسياً، لأن أحدهم اعتقد نفسه سيّداً عليهم فاستبدّ بهم. السيد في النهاية يرى شعبه عبيداً. ما يقوم به إنما ينبع من شعور التفوق الطبيعي بحكم السيادة. العراق، كما سورية وليبيا والسودان، إنما وصل إلى الانحطاط نتيجة مسار الديكتاتورية في أسوأ وجوهها... إلا أن الانتخابات ليست صكَّ غفران أو طريقَ نجاة بدون شروط. هي فرصة تستدعي مجموعة عوامل، كي تتحوّل فعلاً ناجزاً ونتيجة إيجابية. حتى يقال إن العراق يقرّر، من الضروري أن تتوفر لائحة من ظروف أو شروط وتزال عقبات وموانع. يُقال، في علم المنطق، إن التعريف الكامل هو الجامع المانع. إذ لا تعريفَ متكاملٌ من دون أنْ يشمل في منطوقه جميع مكوّنات المعنى، وفي الوقت نفسه، تطرد دلالتُه ما لا صلة له بالموضوع. أن يُقال انتخاباتٍ يعني أنْ تتحقّق حرية صناعة البدائل قبل امتلاك حرية انتخاب الخيارات الموجودة. وأن يقال انتخابات يعني عدم وجود قوى مضادّة توجّه المسارات عبر وسائل غير ديمقراطية.
كانت مظاهرات 2019 بمثابة تمهيد حقيقي لصناعة بدائل من داخلها تصبح قادرة على التنافس مع الحيتان الكبيرة
المعنى الجامع المانع للانتخابات العراقية بعيدٌ. مِن جانبٍ، هناك مليشيات، بعضها داخلي صرف، وبعضها مرتبط بدول أخرى أولها إيران. هذا وحده مشكلة عضوية تناقض تماماً أصلَ حرية الاختيار التي تقوم عليها عملية الاقتراع الحرّ. مع سلطة سلاح، غير سلاح الدولة، يصعُب الحديث عن ظهور قوى بديلة غير مسلحة قادرة على التأثير. هذا سياقٌ قائم في العراق. كانت مظاهرات 2019 بمثابة تمهيد حقيقي لصناعة بدائل من داخلها تصبح قادرة على التنافس مع الحيتان الكبيرة المهيمنة على المال والسلطة والسلاح هيمنة خارجَ نطاق نصوص القوانين المسنّة نفسها التي سنّها داعمو المليشيات والنهب. قُتل ناشطون أو أرهِبوا أو هربوا، للحيلولة دون بلورة أوساط منافسة.
وعلى فرض إمكانية مراوغة سلطة المليشيات اعتماداً على أنها ليست سلطة واحدة منسجمة، بل مجاميعُ متناشزة يمكن الالتفاف عليها باستثمار صداماتها أو خلافاتها مع بعضها، توجد عقبة كؤود أخرى. الديمقراطية وليدة المجتمعات المنتجة، وتنمو بالتوازي مع تطوّر واقع الإنتاج في أي بيئة مجتمعية. أما في البنى الريعية، تبدو المهمّة صعبة، وتصير مخرجاتها مثلَ بقية البلدان الريعية التي نعرفها. مراكز النفوذ العراقية تدرك هذا، لذا هي تكرّس الواقع الريعي وتدافع عنه بكل ما تقدر. هي تنجح سياسات منح الأراضي والرشاوى وبيع الأصوات وأمثالها لتبقي الواقع ريعيا. بالنسبة لأولئك الذين لا يخضعون لمثل هذه التوجّهات، نجد أغلبهم يعزفون، لأن هناك عجزاً فعلياً عن صناعة بدائل، لأنهم أيضاً ضحايا السياسات الريعية الكسولة. المقاطعة على مدى نحو خمسة أعوام ظلت اختيارَ النسبة الأكبر.
جرّب الناس أن يختاروا في السابق. انتخب عراقيون القوائم الطائفية والقومية في ظل الخوف من الآخر
حثّ كثير من دعاة التغيير الناس على المشاركة في الاستحقاق المحلي أخيراً، على اعتبار أن الانتخابات هي الخيار الوحيد. هم مصيبون، لا خيار غيرها، إلا أنها أيضاً لا تصحّ طريقاً ناجعاً مع فقدان الثقة بالبدائل نفسها. نجمت عن مظاهرات تشرين قوائم انتخابية عدة في الاستحقاق الانتخابي أخيراً، وما قبله عام 2021. كان هذا جيداً. حصلت على بعض المقاعد في البرلمان في الانتخابات الماضية، لكنها أخفقت في تحقيق تقدّم يوازي كونها تمثل مئات ألوف المحتجين. في النهاية، لم يكن متوقعاً أن تحقّق كثيراً، وإلا لما تركتها مراكز النفوذ المسلحة والثريّة في مشهد التنافس. تحالف قيم المدني يعدّ أكبر البدائل، لكنه لم يكسب نجاحاً يُذكر في كسب الثقة، وتحقيق نتائج مؤثرة.
تراكمت خسارة الثقة عقديْن. جرّب الناس أن يختاروا في السابق. انتخب عراقيون القوائم الطائفية والقومية في ظل الخوف من الآخر. صوّتوا لزعيم ائتلاف العراقية، إياد علاوي، للحيلولة دون حلفاء إيران. اقترعوا للمالكي خوفاً من مقتدى الصدر. اختاروا الصدر، عندما حالفه الشيوعيون، للتخلّص من الأسماء التقليدية والحيلولة دون عودة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي. في كل مرّة، هناك أسباب، وعندما تُتّبع الأسبابُ لصناعة البدائل تكون النتائج أسوأ. هذه الثقة المفقودة عاملٌ رئيس. القوائم التشرينية الموجودة، رغم تعدّدها، لم تصُغْ خطاباً مقنعاً يدفع الناس إلى التصويت لها. والإقناع هنا ليس الشعارات الانتخابية، بل تحديد آليات تنفيذ برامج تغييرية في ظل وجود أطراف كثيرة. فكيف يمكن أن ينجح دعاة التغيير في صناعة التغيير، وهم محكومون بشروط اللعبة نفسها التي حدّدتها القوى الكبيرة. كانت هذه النقطة على وجه التحديد غائبة، وبغيابها لن تكون أكثر من رقم بين أخريات.
تحدّثت السلطات عن نسبة فاقت 40%، بينما أشارت مصادر أخرى إلى نسب أدنى
لذا، بدلاً من أن يقرّر العراقيون بالانتخابات، قرّروا بمقاطعتها. كانت المشاركة في انتخابات 2018 و2021 متدنية. تحدّثت السلطات عن نسبة فاقت 40%، بينما أشارت مصادر أخرى إلى نسب أدنى. تراجعت هذه المرّة حتى الأرقام الرسمية. إذ أضيف إلى المقاطعين السابقين الصدريون الذين أمرهم زعيمهم بعدم المشاركة. وهذا وحده مشكلة. أن يكون هناك زعيم يمتلك سلطة الحاكم المطلق على جزء من العراقيين، وأصواتُهم في الحقيقة هي صوتُه هو، يعني أن الانتخابات تحمل في الداخل ضدّها. هنا تتحدّث بعض المصادر أن الصدر كان يُفكر بتوجيه جمهورِه في بغداد، بصورة وأخرى، لانتخاب تحالف حزب "تقدّم"، بقيادة رئيس البرلمان المعزول، محمد الحلبوسي، لضرب خصومه الشيعة، وفي مقدمهم تحالف دولة القانون، بقيادة المالكي.
الحال بعضٌ من تداعيات البيئات الريعية على السياسة. في النهاية، المقاطعة قرارُ أغلبية الناخبين. بعضهم إنما قاطع بقرار ريعي (جاء من أعلى). لم يجد آخرون ما أرادوا، وفي الوقت نفسه، لم يمتلكوا مبادرة إنتاجية لإيجاد خيارات. أعطى المشاركون أصواتَهم عموماً لمن يعرفونهم، فاز في بغداد تحالفا الحلبوسي والمالكي، فهما خياران ريعيّان، لأنهما وجْها المشهد المتاحان لتغذية النوازع الطائفية. في محافظات أخرى، انتصر حكّام السلطات المحلية (المحافظون)، ليس لأنهم نجحوا، بل لأنهم مركز قرار محافظاتهم منذ سنوات، بمعنى أنهم المتاحون الجاهزون.
في المحصلة، بعد 18 عاماً من العراق يقرّر، لا إرادة مستقلة لجل مَن يضعون أصواتَهم في صناديق الاقتراع، فلا قرار لأكثر الناخبين بقدر ما هي قرارات الماسكين بعصب "الريع الوطني"، الماسكين زمام الهبات المغرية والقراراتِ بالنيابة والسلطة البديلة عن سلطة مؤسّسة الدولة. لم يقرّر العراق بعد!