العجز الفرنسي في بيروت
لم تحمل زيارة وزير خارجية فرنسا، جان إيف لودريان، إلى بيروت، جديداً بخصوص انسداد أفق الحلّ السياسي في لبنان، سوى التهديدات التي أطلقها الرجل قبيل وصوله الأربعاء الماضي، أنّ بلاده ستتخذ إجراءات عقابية بحقّ معرقلي تشكيل الحكومة ومعوّقيه، من دون أن يسمّي أحداً من أولئك، بل أبقى على حديثه عاماً. كما أنّه لم يكشف طبيعة العقوبات الفرنسية، وإن كان الحديث جرى عن منع دخول الأراضي الفرنسية، وحجز أموال، وشيء من هذا القبيل.
حصر لودريان لقاءاته الرسمية برئيسي الجمهورية، ميشال عون، والمجلس النيابي، نبيه برّي، وبرئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري، ولقاءاته غير الرسمية مع شخصيات سياسية وناشطين في المجتمع المدني، ولم يسمع أيّ من هؤلاء جميعاً، بحسب ما رشح عن اللقاءات، أيّ أفكار جديدة لتطبيق المبادرة التي كان الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، أطلقها في بيروت قبل نحو سبعة أشهر في أثناء لقائه الطبقة السياسية اللبنانية لتشكيل "حكومة مهمّة" تقوم بالإصلاحات المطلوبة. جلّ ما سمعه هؤلاء من لودريان هو التمسّك بالمبادرة، والتلويح والتهديد بالعقوبات، وتوبيخ المسؤولين وتحميلهم المسؤولية عمّا آلت إليه الأوضاع. كما دعا ناشطي المجتمع المدني إلى التحضّر للانتخابات النيابية.
سبب العجز الفرنسي في بيروت عن الحلّ، يعود، في بعضه، إلى جهل فرنسي بما آلت إليه الطبيعة السياسية في لبنان بعد عقود من مغادرة فرنسا أراضيه
والحقيقة أنّ زيارة لودريان والتلويح بالعقوبات كشفا أولاً فشل المبادرة الفرنسية لتشكيل "حكومة مهمّة"، لأنّه كان مطلوباً في المبادرة تشكيل الحكومة خلال 15 يوماً، أي كان يُفترض أنْ يحصل هذا في منتصف سبتمبر/أيلول من العام الماضي، غير أنّ شيئاً من ذلك لم يحصل. وثانياً كشفا العجز الفرنسي عن فعل أيّ شيء في لبنان، فلا المبادرة بشكلها الإيجابي قد أقنعت المسؤولين عن تعطيل الحكومة بتسهيل عملية التشكيل، ولا العقوبات الفرنسية، إنْ أخذت طريقها إلى التطبيق، ستُجبر أولئك المسؤولين على تنفيذ المبادرة وتسهيل التشكيل. عملياً، لا شيء سيتغيّر في المشهد سوى الذهاب إلى مزيد من التعقيد، ومن تفاقم الأزمة مالياً واقتصادياً وسياسياً وربما أيضاً أمنياً.
كما أنّه تجدر الإشارة إلى أنّ فرنسا فشلت حتى الآن، على أقلّ تقدير، في إقناع الاتحاد الأوروبي باتخاذ إجراءاتٍ عقابيةٍ بحق مسؤولين لبنانيين، وهو ما يحتاج إجماع دول الاتحاد، وهذا غير متاح حالياً، لأنّ دولاً في الاتحاد ترفض ذلك. وبالتالي، فإنّ أيّ عقوبات محتملة ستظلّ فرنسية، أو قد تشارك فرنسا فيها بعض دول الاتحاد، وهو ما لا يخشاه معطّلو تشكيل الحكومة ومعرقلوه في بيروت.
أمّا عن سبب العجز الفرنسي في بيروت عن الحلّ، فإنّه يعود، في بعضه، إلى جهل فرنسي بما آلت إليه الطبيعة السياسية في لبنان بعد عقود من مغادرة فرنسا أراضيه. وهنا يدلّل بعضهم على هذا الجهل، أو أقلّه على عدم المعرفة الكافية بطبيعة لبنان الجديدة، باستعجال إطلاق المبادرة الفرنسية بعد انفجار المرفأ، كما لو أنّ لبنان محافظة فرنسية، ولا تأثير لأيّ قوى أخرى فيه. أمّا عن بقية الأسباب فمنها عدم امتلاك فرنسا أدوات الضغط الكافية على المسؤولين المعنيين مباشرة بمسار تشكيل الحكومة، فضلاً عن وجود قوى إقليمية ودولية أخرى لها تأثيرها المباشر والكبير على المشهد اللبناني، وتلك القوى لن تُفسح المجال لفرنسا "على البارد المستريح" للإمساك بتلابيب القرار اللبناني.
تتطلّع فرنسا إلى الحفاظ على موقعها في لبنان الذي لطالما نظرت إليه على أنّه حصّتها في هذه المنطقة
ربما ليست فرنسا معنيّة كثيراً بإيجاد حلول للأزمة السياسية في لبنان بقدْر ما هي معنيّة بحجز موقع نفوذ لها في منطقة شرق المتوسط، كما لو أنّها إحدى دوله، خصوصاً أنّ نفوذها وحضورها آخذان بالتراجع في ساحات أخرى، لا سيّما في شمال أفريقيا وربما بقية القارّة السمراء. ولذلك، هي تتطلّع إلى الحفاظ على موقعها في لبنان الذي لطالما نظرت إليه على أنّه حصّتها في هذه المنطقة، لكن يبدو أنّها لن تتمكّن من حجز هذه الحصّة، في ظلّ التوازنات والأوراق التي يجري خلطها من جديد.
جاء لودريان إلى بيروت بتفاهم مع نظيره الأميركي، أنتوني بلينكن، وقد تكون في خاطر كليهما نيّة لوضع حدّ لأيّ تمدّد روسي محتمل تجاه بيروت، وكذلك لنفوذ إيران الواضح والمؤثّر في لبنان، وكخطوة استباقية لأيّ تفكير تركي بالالتفات نحو هذا البلد، لكنّ الخطوة الفرنسية كشفت أنّ فرنسا القرن الواحد والعشرين ليست فرنسا القرن العشرين التي تقاسمت كلّ هذا الشرق مع بريطانيا في محاصصةٍ خدمت مائة عام، وهي الآن ربما تلفظ أنفاسها الأخيرة.