العجز الغربي والضحية الأوكرانية
لم يكن سيناريو تطور الأوضاع في أوكرانيا بعد بدء الغزو الروسي مستغرباًَ، وتحديداً في ما يتعلق بالموقف الغربي عموماً، والأميركي خصوصاً، من التقدّم الروسي باتجاه العاصمة الأوكرانية كييف. فمن الواضح منذ ما قبل بدء العمليات العسكرية، والتي وضعت لها الدول الغربية الكثير من المواعيد الدقيقة وكانت متأكّدة من حدوثها، أن التحرك الغربي لردع أطماع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لن تزيد عن العقوبات التي لا تقدّم ولا تؤخر، ولن تساهم في ردع بوتين، وهو الذي سبق أن خضع للكثير من العقوبات، سواء بعد أحداث جورجيا أو في أعقاب ضمّ شبه جزيرة القرم من أوكرانيا، وكلها لم يكن لها تأثير على مسار صعود القوة الروسية على الساحة الدولية، مستفيدة من الانكفاء الغربي وترك المساحة لموسكو لملء فراغات انسحبت منها الولايات المتحدة.
إلا أن المستغرب فعلاً هو الموقف الأوكراني الشاجب لهذا الموقف الغربي. إذ إن كييف على ما يبدو كانت تتوقع تحركاً أوروبياً وأميركياً أوسع في مواجهة الغزو الروسي، واقترابه من السيطرة على العاصمة الأوكرانية. هذا ما توحيه تصريحات الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، والذي لجأ يوم أمس إلى إلغاء متابعة زعماء العالم على موقع "تويتر" للتواصل الاجتماعي، نوعا من الاحتجاج المعنوي على الموقف الغربي. وإذا كان الفعل الاحتجاجي للرئيس ينمّ عن نوع من التصرّفات الطفولية، فإن التعويل نفسه على التحرك الغربي يحمل الكثير من السذاجة السياسية أيضاً، خصوصاً أن التصريحات الغربية السابقة للعدوان الروسي لم تكن تشير بأي شكل إلى أي استعداد للقتال إلى جانب أوكرانيا، والاكتفاء بتسليح الجيش الأوكراني لمواجهة القوات الروسية، وهو تسليحٌ يبدو أنه يساهم إلى حد الآن في تعزيز قدرة الجيش الأوكراني على صدّ التقدم الروسي باتجاه العاصمة، لكنه بالتأكيد لن يكون كافياً لمنع سقوط كييف، والتي قد تكون مسألة وقت، بالنظر إلى التفاوت الكبير في حجم العديد والعتاد بين الجيشين.
لكن يبدو أن زيلينسكي لم يأخذ الإشارات الغربية بجدّية، وتخيّل أنه في لحظة بدء الغزو سيكون للغرب موقف آخر، وعلى هذا الأساس رفع سقف تحدي روسيا في ما يخص انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي. غير أنه مع لحظة الحقيقة، ودخول القوات الروسية إلى الأراضي الأوكرانية، فوجئ زيلينسكي، وغيره من المسؤولين الأوكرانيين، بحجم الضعف الذي بات عليه المعسكر الغربي، وعجزه، أو عدم رغبته في الدخول في مواجهة مع روسيا من شأنها أن تتدحرج إلى حرب عالمية تجرّ الدمار على أوروبا بشكل أساسي، وهي التي لا تبدو مستعدة للعودة إلى الوراء والتضحية بمرحلة الرفاه التي يعيشها مواطنوها منذ مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
هذا الواقع يدركه كلياً الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ويتصرّف على أساسه، ولا شك في أنه يستقبل التصريحات والتهديدات الغربية بكثير من الاستهزاء، وهي للمناسبة تستحق ذلك، وتحديداً كلام الرئيس الأميركي جو بايدن، والذي لا يتوقف عن التراجع أمام الروس. ولعل تهديد بايدن أخيرا عن الدفاع "عن كل شبر" من أراضي الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي يحمل الكثير من الرسائل الإيجابية لبوتين. فالأمر لم يكن تهديداً للروس، بقدر ما هو ضوء أخضر للتوغل أكثر في أراضي أوكرانيا التي لم تنضم رسمياً إلى حلف شمال الأطلسي. هذا التصريح، وإن حاول بايدن من خلاله إظهار استعداد الولايات المتحدة للقتال لاحقاً، أكد أن واشنطن لن تتدخل حالياً لصد الغزو الروسي، بل ستبقى تتفرج بانتظار أن "يتهوّر" بوتين ويعتدي على دولة في الحلف. ومع أن هذا الأمر غير متوقع، إلا أنه في حال حدوثه، فإن رد الفعل الأميركي لن يتعدى التهديدات نفسها.
الغزو الروسي اليوم لأوكرانيا رسّخ واقعاً كان معروفاً، خلاصته أن أفول الإمبراطورية الغربية وصل إلى مراحله الأخيرة، ويبدو أن أوكرانيا أحدث ضحاياه.