الطبقية في إعلانات رمضان
كعهد المصريين مع شهر رمضان، يأخذ الإعلام كثيراً من الاهتمام والمتابعة، وترتفع نسبة مشاهدة ما تبثه القنوات التلفزيونية، خصوصاً نطاقي الدراما والإعلانات. وعادة يتضمن البث التليفزيوني محتوى له دلالات سوسيولوجية وسياسية، وقد جاء هذا العام مشحوناً بكثير منها.
لم يختلف الإطار العام للإعلانات في رمضان هذا العام عن الأعوام السابقة، خصوصاً فيما يتعلق بالأهداف والمجالات التي تغطّيها. وانقسمت المواد الدعائية إلى مجموعتين: تجارية مباشرة تروّج سلعا استهلاكية، خصوصا الأجهزة الكهربائية، والعقارات خصوصاً المنتجعات والتجمعات السكنية الراقية. وحملات جمع الأموال (Fund Raising) والتبرّع لأهداف خيرية.
في نطاق المحتوى الترويجي، تكرّر الاستفزاز السنوي المعتاد، بالمبالغة في تصوير الرفاهة والرقي الذي تتمتع به المنتجعات السكنية وتجسيدهما، وإبراز تفرّد كل منها وخصوصيته. إلا أن إعلانات هذا العام حملت جديداً، يتمثل في خصيصة يراها أصحاب المنتجعات الفارهة ومسوّقوها تميزاً، وهي احتواء تلك التجمعات على كل الخدمات والمتطلبات الخاصة بالمقيمين داخلها. بدءاً بالسلع ومستلزمات المعيشة، إلى المدارس والجامعات. وصولاً إلى الخدمات الطبية والمشافي. بما يجعل أهل تلك التجمّعات قادرين على الاكتفاء بالإقامة داخلها، والاستغناء عن التعامل مع البيئة المحيطة خارجه.
وهنا يُطل برأسه مغزى سوسيولوجي خطير، فتلك المقوّمات والمزايا التي يُفترض أنها تحفّز على الإقامة في تلك التجمعات، تُعزز روح الانغلاق، وتُعمق عزلة الطبقة الثرية عن بقية المجتمع. وتضيف إلى الفجوة المادية بين الطبقات فجوةً أخرى نفسية. دوافعها قائمة أصلاً بسبب انتشار تلك المنتجعات السكنية الفارهة. بل بدأ ترسيخها بشكل رسمي منذ خمس سنوات، على يد مؤسسات الدولة، بتأسيس عاصمةٍ جديدةٍ للحكم في مدينة كاملة، مُنفصلة جغرافياً وموضوعياً عن العاصمة الأصلية القاهرة، فتباشر النخبة الرسمية الحكم من داخلها، ويقيم بها الحكام ومن في خدمتهم.
وبموجة الإعلانات في رمضان، صارت هذه الانعزالية توجّهاً عاماً رسمياً وخاصاً على حد سواء. ومن آثار الرمزية الكامنة في تلك الإعلانات أنها تظهر المشاركين فيها كأنهم خارج نواميس الكون والقوانين السارية، بما فيها التي تطبقها الدولة بصرامة، وتتشدّد بشأنها مع الفقراء. إذ تتجاهل الإعلانات التلفزيونية المصرية الإجراءات والتعليمات الرسمية بضرورة التباعد والاحتراز بسبب أزمة كورونا. وتضم كل إعلانات العقارات والمنتجعات الراقية تجمعات بشرية متلاصقة وتلامسا مباشرا، كأن فيروس كوفيد - 19 غير موجود في مصر. ما يرسخ صورة ذهنية عن تلك الأماكن وقاطنيها، كما لو كانوا خارج الكوكب، لا مصر فقط.
أما حملات جمع الأموال والتبرّع للأعمال الخيرية، فتأتي في اتجاه معاكس لكنه موازٍ. على الرغم من أن المساحة الزمنية لها في خريطة البث التليفزيوني أوسع من الإعلانات الترويجية التجارية. وهي لا تستهدف جمع الأموال أو التبرعات العينية للمنظمات الخيرية والجمعيات الأهلية وحدها، بل تدعو أيضاً إلى المساهمة في إنشاء مؤسسات حكومية أو استكمالها، خصوصاً المشافي النوعية المختصة بأمراض متفشية في المجتمع المصري. والأكثر غرابة، أن تلك الحملات تستهدف الفقراء والطبقة الوسطى مصدرا للتبرّعات المطلوبة. بدليل الحرص على تضمين تلك الحملات أرقاماً متدنية للمساهمات المالية المطلوبة، فتصل إلى حد مطالبة أولئك الفقراء بالتبرّع بـ"جنيه واحد".
وهكذا يجد المصريون أنفسهم بين إعلانات ترويجية مُوجَّهة إلى طبقة لا يعرفونها، وربما لا ترى القنوات المصرية، وإعلانات لجمع الأموال والتبرعات تحت شعارات إنسانية وقيم دينية، الفقراء وحدهم هم المطالبون بتطبيقها. في مفارقة سياسية ودرامية في آن، حيث التكافل والعمل الخيري من أجل الفقراء واجب على الفقراء أنفسهم. أما الأغنياء فلا حافز لهم ولا حاجة بهم إلى التبرّع، لا منهم ولا إليهم، فهم بمنتجعاتهم في عزلة يمرحون.