الصراع على السلطة واللعبة الماكرة في العراق
لم يؤدّ أيّ حراك سياسي في العراق إلى تحقيق التنميّة الاقتصادية والازدهار، كما طالب بهما عموم العراقيين فترات طوال، إذ استحوذت على السلطة طبقة سياسية ماكرة، لا تريد أيّ فكاك منها منذ عام 2003. وبدلاً من إنجاز أيّ بناء حقيقي للبلاد، كانت الناس تفجع كلّ يوم، وهي تجد الحكومات المتتالية تنفق مليارات الدولارات على المليشيات غير الخاضعة للرقابة، وعلى شبكات المحسوبية لمجاميع من الفاسدين، مع قطاع عام غير منتج، ومشاريع عامة يخطّط لها على الورق، ولكنها لا تنفّذ وتسرق ميزانياتها بسبب الفساد. وقد ربط العراقيون الفساد عميق الجذور وإخفاقات حكوماتهم بنظام المحاصصة، وهو ترتيب تقاسم السلطة العرقي والطائفي الذي أوجدَه الأميركيون منذ 2003.
عموماً، أدّت القوّة المتصاعدة للمليشيات، مع انتهاك حقوق المواطنين مع الإفلات من العقاب، وانهيار الخدمات الأساسية، وتدهور الأوضاع الاقتصادية، إلى جعل العراقيين يشعرون بأنهّم أقلّ أمانًا حتى في منازلهم، وأكثر فقرًا في سبل عيشهم، وعدم احترام حكوماتهم لهم. كما مورس التمايز الطائفي بأعلى درجاته في كلّ مرافق الدولة والمجتمع! وكما أدّت انتخابات 2018 التي جرت مقاطعتها وتزوير نتائجها إلى تشكيل حكومة فاشلة، فقد تعمقّت أزمة الثقة بالنظام السياسي. ولم تعالج المزاعم ذات المصداقية بشأن التزوير على نطاق واسع، ويبدو أن كلّ الانتخابات العراقية أصابها التزوير، بما فيها التي جرت في أكتوبر/ تشرين الأول الجاري. وبعد كلّ مهرجان انتخابي ينتظره الناس من أجل بارقة إصلاح، يتم عقد الصفقات وإبرام التحالفات في بيوت المسؤولين، وهي "موضة" يستحليها أباطرة العملية السياسية، علماً أنّ بيوتهم هي القصور الرئاسية التي استحوذوا عليها بعد سقوط النظام السابق، وبناها الرئيس السابق صدّام حسين.. ومهما تكن النتائج، فإن إيران هي التي توافق على هذه التحالفات أو ترفضها، مهما بلغت درجة الصراع بين الإخوة الأعداء في العراق. وكما جرى عام 2018، فهذا هو الذي سيجري عام 2021 بإنتاج حكومة ضعيفة، غير قادرة على قيادة البلاد وحلّ مشكلاتها الصعبة.
الأوضاع العراقية السيئة لا بدّ أن تملأ شوارع المدن الكبرى بالحركة المعارضة، وبالاحتجاج اللاعنفي بكلّ الوسائل
وكما تفاقم السخط في أكتوبر/ تشرين الأول 2019، سيتفاقم اليوم على نطاقٍ واسعٍ، خصوصاً بعد الإعلان عن تشكيل الحكومة الجديدة. ومن طرف آخر، سيتورّم موقف المتصارعين على السلطة في الطرف الشيعي، لكنه لن ينفجر، فهم على سفينة واحدة، إذ ستجتمع قوتهم ضدّ الأحرار وضدّ كل من يعارض النظام، وستبدأ عمليات قمع واضطهاد من أجل الحفاظ على السلطة. ومهما أشاعوا من خلافات واحتجاجات، فهو أسلوب ماكر في أداء اللعبة السياسية، أو كما تسمى "سياسة الثعلب الخفي"، فمن يمارسها يعلن عكس ما يبطن، إذ ثمّة غاية واحدة تجمع هؤلاء، وقد أشركوا معهم من رضي أن يكون صنيعة لهم في الحكم والإدارة لأسبابٍ منفعيةٍ، وهؤلاء من "المكوّن السنّي" الذي أثبت عجزه وإخفاقه وقلّة حيلته وهرولته نحو المغانم والمناصب ليس إلّا! أما الكرد، فهم مشاركون بحكم علاقتهم الدستورية وتأمين مصالحهم، إذ يختلف نظامهم في الإقليم اختلافا كاملاً عن بقيّة أنحاء العراق بكلّ مواصفاته السياسية والاقتصادية والإدارية والأمنية. جعبة الاتفاقات (يسمّونها التفاهمات) تسودها طبعاً المحاصصات الطائفية والعرقية أساساً كالعادة، لتوزيع المناصب العليا والمؤثرة على كلّ المزوّرين والمتحزّبين والمتخندقين تحت راية هذه الكتلة أو ذاك التحالف، وسيخرق الدستور الكسيح كالعادة وتقسيم كعكة السلطات على أناسٍ معينين بالذات بعد موافقة الولي الأعظم.. إنهم "يريدون سلطة" غصبا بعيدا عن "الوطن" الذي يعتبرونه مجرّد تفاهة (كما قالها أحدهم على الشاشة!). وسيقف كلّ الشرفاء الأحرار من العراقيين ليجيبوا بشعارهم قائلين "نريد وطنا"، إذ كانت الاحتجاجات قد تفاقمت حول مطلب جديد: الإصلاح السياسي من خلال انتخابات مبكّرة في ظلّ نظام انتخابي عادل. ولكن لا حياة لمن تنادي. وعليه، سيبقى حراك الشعب طوداً في وجه المتسلّطين الجدد، إن لم تنفرج الأمور، وتُقصّ أجنحة مراكز القوى المضادّة للعراق والمتمثلة بالمليشيات.
الأوضاع العراقية السيئة لا بدّ أن تملأ شوارع المدن الكبرى بالحركة المعارضة، وبالاحتجاج اللاعنفي بكلّ الوسائل، وبكلّ صمود، ولتبقى رافضة هذه العملية السياسية الرديئة والمطالبة بمشروع وطني جديد، يقوم على ركائز وطنية تتحدّى الصور والأشكال والمضامين النمطية التي تراكمت منذ 2003.
لمن ستكون الرئاسات الثلاث؟ وهل ستنبثق تحالفاتٌ شرّيرة أو ماكرة للالتفاف وقطف الثمار والقفز على السلطة؟ هل سيبقى مصطفى الكاظمي رئيساً للوزراء، أم يعود نوري المالكي ثالثة؟ هل سيبقى العراق في هذا المخاض الصعب، من أجل صراع التماسيح على السلطة واستلاب العراق وطناً وشعباً وموارد؟ هل ستبقى المليشيات عديمة الولاء للعراق تسرح وتمرح في العراق شمالاً ووسطاً وجنوباً؟ هل ستكبر الاحتجاجات، وتعود انتفاضة المتظاهرين المناضلين في الشوارع؟ هل ستتّم أيضاً عمليات القتل المستهدف لنشطاء بارزين، والاختفاء القسري، والاختطاف والتعذيب؟ من سيعّوض مئات القتلى وآلاف الجرحى الذين سقطوا في الحركة المؤيدة للإصلاح؟
العراقيون في حاجة ماسّة إلى دفع أجندة الإصلاح والتغيير إلى الأمام، بناء على تجربة الحركة الاحتجاجية التشرينية
العراقيون اليوم في حاجةٍ ماسّةٍ إلى دفع أجندة الإصلاح والتغيير إلى الأمام، بناءً على تجربة الحركة الاحتجاجية التشرينية ونجاحاتها، وأن يشارك كل العراقيين في الاحتجاجات من دون خوف ولا التزام الصمت. وهناك أيضًا اعتراف واسع النطاق بأهمية الحفاظ على مكانة أخلاقية الحركة، وبقائها عالية لدى مجاميع الشباب، وتثقيف الجمهور وزيادة دعمه، والدفاع عن حقوق الإنسان.. وتحقيق العدالة وإعمار المناطق المنكوبة والمسحوقة والمهملة في كل مدن البلاد، وإحياء الهوية الوطنية بديلا عن "المكوّنات العراقية"، ومعالجة الخلل الاقتصادي المتفاقم والارتفاع المتسارع للبطالة واستئصال الفساد والتحقيق في صميم مظالم العراقيين، وإيجاد فرص عمل كافية للشباب المتنامي في البلاد (مع ما يقرب من نصف مليون شاب يدخلون القوى العاملة كلّ عام)، وبعيداً عن اللُعب الماكرة في الصراع على السلطة من "زعماء" قوى متخلّفين، ولهم تبعيتهم أو أهواؤهم أو انتماءاتهم.. سيحتاج العراق قادة وطنيين جددا، يمكنهم تجاوز الفساد والمعاملات السياسية الرديئة، مع تشريعات كبيرة من أجل الإصلاحات السياسية والاقتصادية الضرورية.
استحوذت تماسيح الطبقة السياسّية، بشكلٍ أو بآخر، على عشرات المقاعد في البرلمان.. ويبدو واضحاً انقسام العراقيين المفضوح، فمهما بلغ التزوير قوّته، فمن منح ملايين الأصوات إلى هذه الكتلة أو تلك؟ وبدا واضحاً أن الفرص غير متاحة هذه المرّة أيضاً، بسبب المواقف المنفعية والطائفية المنقسمة للعراقيين، فثمّة من يؤيّد الكتل السياسيّة المدعومة من المليشيات التي تتوارث الحكم، وقسم افتقد الثقة وصمت ولم ينتخب، وقسم لا يعرف ما يريد.. مشكلة أغلب العراقيين انشغالهم بهوس السلطة والنفوذ والقوة والمناصب، وبذلك أضاعوا العراق.