الصحافةُ إذ تترهل وتشيخ
في الصَّحافة، عملتُ طويلا. منذ سفري إلى باريس لمتابعة دراستي الجامعية، اعتشتُ بشكل أساسيّ من العمل الصحافيّ. كنت أراسلُ مجلاتٍ شهرية، وجرائد يوميّة، وأعدّ مجلات إذاعية، إلخ، في لبنان أولا، ثم في بلدان عربية وأجنبية، وأذكر جيّدا كم كنتُ أشقى لكسب مبالغ قليلة، لأن الاستكتاب لم يكن يوما ذا مردود ماديّ مرتفع، ثم إني كنتُ في بداياتي، وكان هذا برأيي طبيعيًا ومشروعًا. كتبتُ في الصفحات الثقافية على وجه التحديد، في أبواب المسرح والسينما والأدب بالذات، وكنت أجري مقابلاتٍ مع كتّاب معروفين، عرب و أجانب، يهمّون القارئ العربي، من أمثال: أندريه شديد وألبير قصيري وباولو كويلو، وسواهم من صانعي الحدث الثقافي في باريس. وكنت أغطي الإصدارات والأنشطة الأجنبية أكثر من سواها، بحكم وجودي في عاصمة الأنوار. أذكُرُ كم كنتُ أتهيّب من لقاء الأدباء وكبار الفنّانين، فلا أكتفي بمشاهدة عملهم أو قراءة إصدارهم الجديد، موضوع المقابلة، بل أعود إلى إصداراتهم وأعمالهم السابقة لتحضير نفسي، وأسئلتي، وكان ذلك أمرا بديهيا بالنسبة لي، ضريبة ومكافأة في آن. بعد إتمام المقابلة، كنتُ أعود إلى تفريغ الشريط المسجّل، ثم إلى تبييضه وتحريره، فلم أكن أسمح لنفسي أن يفوتني أيّ كلامٍ أو أسلوب تعبير، مخافة ألا أكون أمينةً في نقله. كنت أحمل مسجّلتي الصغيرة (أو الكبيرة جدا للمقابلات الإذاعية)، وأبقى مرعوبةً أن يُصيبها عطلٌ ما خلال اللّقاء، فأعود خائبة، خالية الوفاض، وقد هدرت سدىً وقتَ سيّد المقابلة ووقتي.
سنوات طويلة، رافقتني الصحافة، وفتحت ذهني، وعلّمتني الإصغاء، ووفرت لي صداقات رائعة، لكني أقرّ أني لم أتعلّق بها وكنت أتمنى دائما الفكاك منها، لأنها كانت تسرق من جهدي ومن وقتي كثيرًا، كنتُ أتمنّى لو أستطيع تخصيصه للكتابة دون سواها، وما يرفدها من قراءات.
اليوم، وبعد أن قطعتُ ما قطعته روائيةً ومؤسّسةً لمحترف للكتابة ونشر الكتّاب الشباب، صرتُ بدوري "موضوعا صحافيا"، إذ يُكتب عن أعمالي وتُجرى معي مقابلات مقروءة ومصوّرة، وأُسأل عن رأيي في كذا وكذا. بيد أنّ ما ألاحظه، منذ فترة ليست قصيرة، هو نوع من الترهّل والتراخي في هذه المهنة الكبيرة والمهمّة التي لطالما عُرفت بأنها سلطة رابعة يُحسب لها ألف حساب. أتحدّث هنا عن الصحافة الثقافية التي أعرف، تلك التي تنقد وتنقل وتعلّق على كل ما يجري ثقافيا، وتشكّل نوعا من المنارة لجمهورها من القراء. ومع احترامي الكامل لأسماء كبيرة ما زالت تشرّف بنتاجها هذه المهنة، فإن الأغلبية العظمى من الكتَبة والمستكتَبين الذي يملأون يوميا مئات الصفحات الورقية والإلكترونية بكتاباتهم، ينشرون من دون أي شعور بالمسؤولية، أو جهد حقيقي، أو حرص على احترام عقل القارئ واحترام ذواتهم. بل باتت كتابات الأكثرية فاقدة الطعم، هشّة، لا تأتي بجديد، بحيث يبدو كلُّه مسلوقا، مجترّا، يشي بالقِدَم أكثر مما يعبّر عن جديد.
هذا وثمّة سلوك درج أخيرا، ولا علاقة لجائحة كوفيد به، وذلك على الرغم من تكاثر وسائل الاتصال التي تمكنّ الصحافيّ من مقابلة ضيفه، ولو كان بعيدا وموجودا في أقاصي الأرض: كأن يُرسل الصحافي أسئلة عامة، تفضح عدم قراءته النتاج موضوع المقابلة، طالبا الردّ كتابيا، لكي يكتشف من أجريت معه المقابلة من ثم أن إجاباته قد حُوّرت، أو نُسّقت، بشكلٍ يوحي أن الصحافيّ هو من صاغها وحرّرها ليبرّر ما سيناله لقاءها من مكافأة؛ أو كأن يُطلب من الأديب أن يكتب في موضوعٍ معيّن، مقالة كاملة، موسّعة، يوقّعها هكذا ومن دون أي مقابل، وهو ما لا يحصل في أي مكان آخر في العالم. وقد يقول قائل إن هذا ذنب الصحف والمواقع التي تدفع القليل لقاء العمل الصحافي بشكل عام، لكننا سنجد أنفسنا والحال هذه، مأخوذين في حلقة بائسة، مفرغة، لن تنتهي بنا إلا إلى مزيد من الخواء واللامعنى.
ومع تقديم اعتذاري المسبق لمن يظلمه هذا الكلام، يجدر أن أوضح أني لستُ أتّهم أشخاصًا بعينهم، أو أفرادًا مأخوذي الأطراف في شِباك الحياة وصعوبة تحصيل الرزق، وإنما سلوكًا ثقافيًا سمّم عالمَ الصحافة، بمثل ما سبق له أن أفسد مهنًا سامية أخرى.