الصبر الذي ليس له حدود
اشتهى الأسير الفلسطيني، الفارّ أياما معدودة، محمد العارضة، أن يأكل من ثمار البلاد. تعرفون طبعا وقع كلمة البلاد على قلوبكم، حتى المغترب يشعر بوقعها أكثر. ولذلك، تحدّث أجدادنا عن جذورهم التي نزحوا منها بعد نكبة العام 1948 بقولهم "البلاد"، وكنت أحسبها، لصغر سني، بلادا غريبة أو بلاد الأقزام أو حتى العمالقة، حتى عرفت أنها الأماكن الأقرب إلى القلب. وهكذا اشتهى الأسير الفارّ ثمار البلاد، وليست أي ثمار. تحدّث عن ثمار الصبر، وهنا في فلسطين نسميه صبْرا، وفي الكتب وفي بعض البلاد يطلق عليه اسم "التين الشوكي" الذي لم أكن أشعر برغبةٍ في تناوله من فوق العربات في مصر، حيث يباع بكثرة في الصيف، ولم أجد حنينا، ولا خطوات تسابقني نحوه، على العكس من الثمار المحاطة بالشوك والمعلقة بين ضلوع الألم في أحراش البلاد.
عندما تحدّث الأسير محمد العارضة عن فرحته بالتهام ثمار الصبر من مرج بني عامر خصوصا، سرحت في الأيام الخوالي، تلك الأيام التي كنت فيها طفلة، أخرج مع عائلتي إلى الحدود الشرقية لمدينتي، لزيارة أصدقاء قرويين هناك. وهناك كان اللقاء المحبّب مع أضلاع الصبر وثماره، وكنت أتأمل، بفضول ورغبة، في تجربةٍ لم تحدث بالطبع، طريقة قطفهم لثمار الصبر من بين الضلوع بكل دقة؛ فلا تخدش أيديهم، فهناك عصا خشبية ثبتت بأحد أطرافها أسطوانة من المعدن الحادّ الأطراف والمفتوح من الجانبين، بحيث يتم قطع الثمرة عن الضلع الشائك بأحد الأطراف الحادّة، وتبقى الثمرة أيضا داخل تجويف الأسطوانة، ويتم سحبها بحذرٍ من بين الضلوع، فلا تقع، وتفقد حيث تغوص الحيات والأفاعي، وقد حدث أن أطلّت أفعى ضخمة، فتلقفتها ابنة صديقنا القروي بهذه الآلة البدائية، وضربتها فوق رأسها عدة ضربات، حتى خمدت حركتها، واستأنفت عملها الممتع في قطف ثمار الصبر وجمعه، حتى إذا ما جمعت كمية منه افترشنا الأرض، وبدأت مهارة تقشيره. وعليك أن تتناول الثمرة من وسط القشرة، فتنتزعها بحرص، وترميها في فمك مرّة واحدة أو مرّتين على الأكثر.
مهارة تقشير ثمار الصبر لا يمكن أن يمتلكها أحد مثلما امتلكها جدّي لأمي، وكانت أيام طفولتي تشهد أسئلةً بلا أجوبة، منها سروال جدّي الشامي الواسع المثقوب الذي لم أحل لغز ثقبه إلا حين كبرت، ووعيت الفرق بين الصفة التشريحية للذكر والأنثى. أما السؤال الثاني فهو لماذا تمتاز حبّات الصبر في مجلس جدّي بمذاقٍ لا يقاوم؟ وأظل في حالة نهم، حتى ينبهني جدّي إلى أن الإكثار منه قد يسبّب الإمساك المؤلم، والسؤال الذي لم أعرف إجابته إلا أخيرا، وهو لماذا بعد تناول عدة حبّات من الصبر لا تدري سبب فقدك شهيتك للطعام؟
اليوم أكتشف، وأخيرا جدا، أن جدي كان فقيرا، وكانت ثمار الصبر وجبةً مُشبعة، ووصفة ناجعة لإنقاص الوزن وضبط السكر في الدم حسب الدراسات، كما أن ثمار الصبر تعطيك إحساسا بالشبع، فلا تطلب الطعام مدة طويلة. ولذلك ثمار الصبر التي كان يعاني جدّي في قطافها هي سدّادة جوعه وجوع جدّتي في أيام الصيف الطويلة. وثمار الصبر التي تناولها الأسير الفارّ محمد العارضة، سدّت جوعه ساعات بالتأكيد، ناهيك عن مذاقها الذي لا يوصف ولا يتخيل، حين تقطفها بحذر وعناء ورويّة من بين الضلوع الشائكة.
تجربة قطف الأسير الذي عاد إلى الأسر تستحق وقفاتٍ ووقفات. تتأمل أنت وحدك ذكرياتك البعيدة، وتتأمل كيف يُجازف المرء ويتعب، ويكدّ من أجل أن يحقق أمنية صغيرة، يراها بعضهم تافهة ولا تستحق، لكنها بالنسبة للآخرين عظيمة، وتستحق أن تحفر نفقا من أجلها، فالمتعة التي حصل عليها الأسرى في أيام حرّيتهم القصيرة تساوي سنواتٍ وسنواتٍ من أعمارهم، ربما منحتهم جرعاتٍ من الصبر بلا حدود سنوات مقبلة. ولذلك لا تحدثوني عن مذاق ثمار "التين الشوكي" على عربة خشبية تقف على كورنيش النيل في القاهرة.