الشعبوية في تونس وحالة الاستقطاب
منذ الأيام الأولى لسقوط نظام الرئيس بن علي في تونس، تبيّنت بشكل سافر حالة الاستقطاب الحاد التي كان عليها المجتمع التونسي، وتحديدا نخبه السياسية والثقافية. شرخ مجتمعي هو أخدود عميق يشجّ الجسم الاجتماعي إلى طيفين واسعين، هما في سياقات عديدة مجتمعان "منفصلان". لم يكن الشاعر اليساري محمد الصغير أولاد أحمد على خطأ حين كتب إن قرونا تفصل "خصومه الإسلاميين" عن رفاقه وطائفته الحداثية، فدماؤهم ليست هي دماء هؤلاء. وليست هذه الاستعارة الشعرية، في النهاية، سوى ترميز كاريكاتوري لما كان عليه التونسيون أسابيع معدودة بعد الثورة. تبخرت نشوة الثورة، وحظرت حساباتٌ لم تجر تصفيتها خلال عقود ما وربما تم تأجيلها إلى حين، حتى حلّ هذا الحين، سارع الجميع إلى تصفية تلك الحسابات.
اعتقد الجميع أن التونسيين تخلّصوا من الاستبداد، وعلينا جميعا أن نصفّي الخصوم الثانويين الذي كان يعدّدهم هذا الطرف أو ذاك. كان اليساري يعتقد أن الحرية ستتيح له تصفية الإسلاميين، وكان الإسلاميون يعتقدون أنهم، وقد تخلّصوا هم أيضا من استبداد بن علي عليهم، آن لهم أن يتخلّصوا من هذا اليسار الاستئصالي، وظلت المعارك تتغذّى من هذا الحدث وذاك. انشغل الجميع بتأجيج الصراع وافتعال الأزمة تلو الأخرى وتصيد أخطاء الغير، بل ودفعه إليها دفعا. كانت النخب تدرك أن حطب تلك المعارك الذي يحول الخلافات الفكرية إلى سعير يحرق الجميع، مثل المعارك الهووية، الإسلام، العروبة، المقدس، الهوية، المثلية .. تم تكديس كل معارك العالم وإسقاطها : الفيمينزم القصووي إلى حد التعرّي، حرية التعبير إلى حد نزع كرامة البشر، على الجبهة المقابلة أيضا كان التوتر على أشدّه في استحضار سيئات الخصم المقابل، فاذا هو خطاب إلحادي، معادٍ للهوية متنكّر للثوابت .. إلخ.
تتم استعادة المعين الهووي من أجل تصعيد الاستقطاب الهووي مجدّدا
كانت هذه المعارك تجري على الهواء مباشرة من خلال برامج إعلامية كانت تسكب النار على الزيت، وانتقلت أيضا إلى الخطاب الانتخابي في الساحات العامة والشوارع والمداشر والمدن. وأعادت صناديق الانتخاب، وإن بشكلٍ ما، إنتاج تلك الاستقطابات، ولم ينجُ منها برلمان انتخابات 2014، حتى بعد أن صيغ دستور توافقي، كنا نتوّهم أنه وضع حدّا لحالة الاستقطاب التي ميّزت المرحلة التي سبقته. كنّا نخال أن التوافق الحاصل حول هوية تونس ودين الدولة والمرأة .. إلخ التي جرت دسترتها كافٍ لوضع حدّ لذلك الاستقطاب الهووي العمودي. ومع ذلك، عاد الاستقطاب، في كل مرّة، غائرا في جسد المجتمع: مسألة الميراث، الأقليات العرقية والمسألة الجندرية والمثليين. تتم استعادة المعين الهووي من أجل تصعيد الاستقطاب الهووي مجدّدا. لم يكن بالإمكان للتونسيين أن يديموا حالة الحوار. وأمور مهمة تؤشّر إلى أنهم شعب، على حدّة استقطاباته الهووية، تجنّب، في أحيانٍ كثيرة، اللجوء إلى العنف، حتى وهو يناقش أكثر المسائل حرجا وحساسية: المثلية، المساوة التامة في الإرث، التطبيع، الفرنكفونية، العروبة، المسألة الأمازيغية ... إلخ.
حدثت بين حين وآخر انحرافات، لكنها ظلت استثنائيةً تدور على هامش الفضاء العمومي الذي أتاح التداول لجل الآراء، وإن بدرجاتٍ مختلفة، فالإعلام كان، من حين إلى آخر، نصيرا للطرف "اليساري الحداثي" لاعتباراتٍ عديدة.
يعتقد طيف واسع من اليسار أن القدر جاد عليهم بقائدٍ أنجز ما لم يستطع أعتى زعماء اليسار إنجازه
ربما كانت انتخابات 2019 هي التي أشارت، بشكلٍ واضح، على تراجع الاستقطاب الهووي الحاد، وذلك لعدّة أسباب، لعل أهمها تراجع حركة النهضة التي بما كانت عليها من شعبية واسعة قد نفخت في سعير الاستقطاب، من حيث لم تشعر، كما أن تعدّد المترشّحين خصّوا في الدور الأول من انتخابات الرئاسة كانت بدورها قد خفّفت، إلى حد ما، من هذا الشرخ الاجتماعي الحاد. وكان ترشّح الرئيس الحالي، قيس سعيّد، الذي لم يكن محسوبا على معسكر من المعسكرين المتقابلين منذ الثورة (إسلاميين/ علمانيين) الذي نافس المترشّح نبيل القروي الذي يعد براغماتيا سياسيا أكثر من أن يُحسب لدى الرأي العام على الأقل من ضمن الصفّ العلماني، وذلك على الرغم مما قام به من تأجيج في سعير تلك النار بين المخيمين قبل ترشّحه. وذلك عير قناته التلفزية وعضويته المتقدّمة في حزب "نداء تونس" الذي بناه مؤسّسوه قلعة للحداثة والعلمانية في مواجهة "الظلاميين" قبل أن يعمد إلى تغيير ملامحه، حتى طغت عليها شخصية الرجل المحبّ للعمل الخيري ... إلخ.
صعد سعيّد في هذه المناخات التي تراجعت فيها الصراعات الحدّية القاتلة بين المخيمين المذكورين، غير أنه سيبدأ تدريجيا، وبشكل مركّب، في التلاعب بذلك الاستقطاب من أجل تحويل فيئه السياسي والفكري لفائدة الشعبوية. لقد حرص، في مرحلة أولى، على تجاوز حالة الاستقطاب تلك، واستبدالها بمقولة الشعب الذي تنصهر فيه تلك الشروخات الهووية، فلا هوية سوى هوية شعبه المتخيّل المنصهر والمندمج والمتماهي مع قائده، وهي شعبويةٌ ترسّخ منظورا أحاديا للهوية عبّرت عنها تصريحاته عن هجرة الأفارقة، غير أن سعيّد، على المستوى السياسي، يبتكر حالة من الاستقطاب الثنائي الحادّ هذه المرة بين هم ونحن. يحشُر في معسكر هم الإسلاميين ومن تقارب معهم حتى على المستوى السياسي، فهم خونة وعملاء ومجرمون وفاسدون، بل وأورام سرطانية علينا استئصالها، ومعسكر نحن: الوطنية والطهارة والبراءة والصدق .. في هذين المخيّمين المتقابلين، نتفطّن إلى أن المخيم السابق، أي طرف الصراع الأبدي مع الإسلاميين قد اختفى أو يكاد. والحقيقة أنه جرى إلحاقه رديفا للصراع. يضمّ مخيم الشعبوية حاليا في صفوفه طيفا واسعا من اليسار يعتقد أن القدر جاد عليهم بقائدٍ أنجز ما لم يستطع أعتى زعماء اليسار إنجازه. خلصهم من خصم، وهم حاليا في مواقع متقدّمة من الدولة وصنّاع القرار السياسي وفي المجتمع المدني والإعلام يردّدون "دعه يعمل، دعه يمرّ، ...".
تذكّرنا ما يقوله المثل العربي، مع شيء من التحريف، "ربّ قائدٍ لم تلده يساريّتك".