الشرب من بحر غزّة
من أصدق المعاني غير المباشرة التي تضمنها عنوان كتاب الصحافية الإسرائيلية أميرة هاس "Drinking the sea at Gaza" (صدر في 1999)، أن بحر غزّة سيشرب منه الجميع، قريبين كانوا أم بعيدين، فهو يحفظ للمتخاذلين حقّهم للشرب من الجحيم!
تجسيدا لهذا المعنى، أقدمت شبكة كارنيغي العالمية على استقراء 14 من خبرائها في العالم، عن تداعيات أحداث غزّة وآثارها على العالم، واختارت منسّقة الاستقراء مها يحيى (مديرة مركز مالكوم كير- كارنيغي للشرق الأوسط) جعل اقتباسها "... غزّة هي جرحُنا المفتوح" من أقوال أميرة هاس، دليلاً على ما تختزنه وتختزله غزّة حول تاريخ هذا الصراع بتعبيرها. والتجسيد الآخر لهذا المعنى ذلك التأثير العالمي الواضح، الذي أكّدته وجهات نظر جل هؤلاء الخبراء، مؤكّدين رجوع القضية الفلسطينية إلى اعتلاء قمّة القضايا السياسية والفكرية العالمية. وقد أحسنت المحرّرة الاستعارة، حينما اقتبست عبارة ذلك الطفل الفلسطيني، وهو يجيب الصحافي عن سؤال/ ماذا سيفعل عندما يكبر؟ فأجاب الطفل: "إننا أطفال غزّة لا نكبُر"، مبيّنة أن مسعى الإجابة عن السبب هو ما تجسد بعد 7 أكتوبر في توارد واختلاف وصراع سرديات عديدة بشأن طبيعة ما يحصل وأصوله وامتداداته المستقبلية، ستبيّن جانبا منه وجهات نظر الخبراء، فماذا عساها حملت من جديد؟
شغلت نظرة الاتحاد الأوروبي والأوروبيين حول ما يحصل في غزّة، وأشكال تعاملهم الفعلية والممكنة مع الحدث، حيّزاَ مهماً من الاستقراء، غير أن الإجابة كانت مخيّبة للتوقعات، ذلك أن القارئ يمكنه اختزالها في موقفٍ أكّد عليه المستجوبون؛ انقسام في الموقف الأوروبي، في صورة يمكن وصفها بالموقف العاجز عن التجدّد وفق سياسات العالم المتحوّلة، أو المتناسبة مع حجم ما يحدُث في غزة، ولذا، لم تجد مديرة كارنيغي أوروبا، روزا بلفور، غير الدعوة إلى استعادة تجديد التمسك بالموقف الأوروبي التقليدي من النزاع، ووضعه موضع التنفيذ (تقصد الالتزام بحل الدولتين والعودة إلى حدود 1967). بينما ستزيد مديرة تحرير مدونة "أوروبا الاستراتيجية"، جودي ديمبسي تأكيد هذه الصورة المرتبكة، بتأكيدها أن الموقف الأوروبي الخارجي غير موحّد سياسياً، بالأخص تجاه القضية الفلسطينية، مع تأكيدها فيما يشبه تصويراً شديد الخيبة؛ أن أوروبا ليس لها أي تأثير على الحرب في غزّة! وبغض النظر عن الحقيقة الواضحة في أن روسيا في نظر جلّ المحللين مستفيد أكبر من الأحداث في غزّة، حسب خلاصة توماس دي فال (زميل أول في مركز كارنيغي أوروبا)، نعتقد أن خلاصات ريتشارد يونغز (زميل أول في برنامج الديمقراطية والنزاع والحوكمة في مركز كارنيغي أوروبا) كانت الأكثر حنكةً ومعقوليةً؛ فقد اعتبر أن عدم التدخل والوقوف على مسافة متساوية من الطرفين، كما يصرّح الأوروبيون، أو لنقل بعضهم، ليس كما نعتقده، موقفاً حيادياً على أرض الواقع، نظرا إلى الاختلالات الواقعية في توازن القوى بين إسرائيل والفلسطينيين.
وتكمن أهمية هذه الخلاصة، أيضا، في تعرية يونغز مسألة أخرى، أو لنقل عجزا بنيويا آخر ينخر جسم القارة العجوز، أن ما تدّعيه من حيادية إنما هو محاولة، حسب عبارته، "للتخفيف من التداعيات الممتدة للنزاع على الأزمات التي تستوجب حاليا الاهتمام داخل أوروبا نفسها".
الفعل السياسي الصيني لا يزال بعيدا عن التناسب مع حجم الخطاب الإعلامي المفترض
أما تصريحات الخبراء بخصوص الداخل الأميركي، سواء على مستوى الرأي العام أو النخب السياسية، فأهم خلاصاتها رصد التحول الذي بدأ يطرأ على الجيل الجديد من الشباب، والذي وصفه جايك والاس (زميل أول غير مقيم في برنامج الشرق الأوسط في مؤسّسة كارنيغي للسلام الدولي) بالتحول اللافت والخطير على مستقبل الديمقراطيين في الانتخابات المقبلة، ونعتقد أن خطورته تشمل الجمهوريين أيضا وكتلة الرأي التقليدية. وإذا كان تصريح والاس ذا حيادية كبيرة، ومهنية أكاديمية رفيعة في نظرنا، فإن الباحثة سارة ياركيس (الزميلة الأولى في البرنامج نفسه) لم يكن موقفها سوى تكريس لأزمة النخب الغربية، التي لم تستطع بعد التغلب على نفسها في موضوع القضية الفلسطينية. ولذا، بدت ياركيس جدّ متحيّزة في خلاصاتها للرأي العام التقليدي الأميركي المساند لإسرائيل، بل بدت كأنها تكتُب لأجل التنبيه على ضرورة الحفاظ على هذا الموقف، وليس بنية رصد أي مستجدّات داخل المجتمع الأميركي في جل مجالاته الحيوية، عكس تصريحات زميلها والاس، فالباحثون أنفسهم يشربون من بحر غزّة ولا بد لهم من ذلك!
وبخصوص الموقف الأفريقي، لم يحمل الاستقراء جديدا يُذكر، غير تسجيل الإجماع العام في الموقف الذي أبدته الدول الأعضاء الخمسة والخمسون في الاتحاد الأفريقي تجاه القضية الفلسطينية، والذي سار في اتجاه تأكيد حلّ الدولتين وضرورة إسهام المجتمع الدولي في تسهيل إحلال السلام والأمن. هذا من دون أن يعني ذلك عدم وجود تبايناتٍ داخل الدول الأفريقية نفسها، والتي تميّزت مواقف بعضها، كنيجيريا وكينيا (لاحقا)، بالحذر الدبلوماسي، عكس موقف جنوب أفريقيا ودول شمال أفريقيا ذات التوجّه الواضح في دعم حقّ الشعب الفلسطيني، والخلاصة الكبرى أن الموقف الأفريقي يتحوّل بناء على تحوّلات شبكة المصالح وتحولات الرأي العام الدولي، من دون أن ننسى السمعة التي انهارت لدولة إسرائيل، نتيجة للدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا، والتي مهما كانت النتيجة الصادرة عن محكمة العدل الدولية تجاهها، فإنه "من الآن وصاعدًا، لم يعد سهلاً ربما على العالم التغاضي عن انتهاكات دولةٍ كثيراً ما بقيت فوق المساءلة والمحاسبة"، حسب عبارة مها يحيى في مقالتها الأخرى "الموت وعواقبه في غزّة".
انقسام في الموقف الأوروبي، في صورة يمكن وصفها بالموقف العاجز عن التجدّد وفق سياسات العالم المتحوّلة، أو المتناسبة مع حجم ما يحدُث في غزة
أما الموقف الصيني من الأحداث، وعلاقة ذلك بنفوذها المتنامي في الشرق الأوسط، فإن تصريحات تونغ جاو (زميل أول في مركز كارنيغي الصين) تكشف أن الصين لم تقدّم أي موقف جديد، سوى الحفاظ على سياستها الداعمة للأمن والاستقرار في الشرق الأوسط، والذي يخدم، بطبيعة الحال، سياستها التوسّعية على المستويين، الاقتصادي والتنموي. ولذا، صورتها الحالية أقرب إلى الموقف المحايد صوريا والجامد عند نقطة حل الدولتين وسيلةً لإنهاء الصراع. ولعل الخلاصة المسجّلة على موقف الصين هذا، والتي نستشفّها بشكلٍ غير مباشر من تحليلات يونغ، تؤكّد أن الفعل السياسي الصيني لا يزال بعيدا عن التناسب مع حجم خطابها الإعلامي المفترض. ولهذا، نجدها بناء على ملاحظات يونغ أيضا، ذات خطاب مزدوج: صيني داخلي وصيني خارجي، وهي صورة تعكس حقيقةً لطالما التصقت تاريخيا بالأنظمة الشيوعية الشمولية، ثم إن وضعها هذا يبيّن أن الصين لا تزال بعيدة عن لعب دور سياسي أكبر مما أقدمت عليه، في تباين للسرعات بين براعتها التكنولوجية المدهشة وتأخّرها المخجل على مستوى الإبداع السياسي.
هذا، ومن دون أن نقف عند تأثير الحرب على وضع المهاجرين في أوروبا، وأثرها على ديمقراطيات هذه الدول، والتزاماتها تجاه القضية الأوكرانية، أو على دول منطقة القوقاز، أو صعود الموقف البرازيلي المندّد بالرد غير المقبول مع ولاية لولا دا سيلفا، وكذا تنامي الانقسام داخل الصف الهندي بسبب الحرب في غزّة، بين حزبي بهاراتيا جاناتا (الحاكم) والمؤتمر الوطني الهندي المعارض ... إلخ، وإلى جانب هؤلاء، فإن بحر غزة تشرب منه الدول العربية والإسلامية أيضا ولا تزال، وإن لم يسلط الاستقراء الضوء على وضعية هؤلاء، لكن الخلاصة الكبرى قد جسّدها الفشل الكبير للاتفاقيات الإبراهيمية، أما المذاق الأبرز لطعم بحر غزة، فقد لخّصه المفكّر العربي عزمي بشارة في عبارته: "ليست الحقيقة ضحية الحرب الأولى كما يقال، بل تسقط الأخلاق قبلها".