المغرب ومحكّ "فيفا" الحقوقي والتنموي
المراهنةَ على الفوز في اللعبة الأكثر شهرةً في العالم لا تنحصر في كسب المقابلات الكروية فحسب، فالربح قد يتّخذ صوراً وأشكالاً أخرى تستحقّ هي الأخرى المراهنةَ عليها، وحسب رئيسة المجلس الوطني لحقوق الإنسان في المغرب أمينة بوعياش: "الأحداث الرياضية الكُبرى ليست سبباً في الاحتفال فحسب، بل هي فرصة للنهوض بوضعية حقوق الإنسان ومناسبة قوية لإحداث تغييرات إيجابية على هذا الصعيد" (مقتطف من مقدّمة تقرير نُشر في 31 يوليو/ تمّوز 2024 في الموقع الرسمي لـ"فيفا").
في غمار تظاهرة كأس العالم في قطر 2022، انطلقت قصّة المغرب القديمة - الجديدة في عشق هذه الرياضة، فانتقل من المراهنة على ربح كأس العالم، باعتباره بلداً كرويا بامتياز، إلى المراهنة على التنظيم هذه المرّة، وهو ما تحقّق بنيل ملّفه المشترك (Yalla Vamos)، شرف تنظيم كأس العالم 2030، بمعية بلدين مجاورين (إسبانيا والبرتغال)، تربطه بهما علاقات تاريخية وجغرافية وثيقة. غير أنّ الظفر بتنظيم هذه التظاهرة العالمية، كما هو معلوم، يقتضي التعهّد بالتزاماتٍ تشمل مجالات حيوية عدّة. وهذا هو العنصر المحمود في المراهنات العالمية الكبرى، يُخرجك من سياج العزلة الوهمي، ويدفعك إلى أقصى درجات التحدّي والاستعداد. ولعلّ أهمية هذه المراهنة تترجمها المراسلة الرسمية التي بعث بها فوزي القجع، في ديسمبر/ كانون الأول 2023، بصفته رئيس الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم، إلى مؤسّسةٍ دستوريةٍ مغربيةٍ هي المجلس الوطني لحقوق الإنسان، باعتبار المجلس جزءاً من الطاقم الفني المُكلَّف بملفّ ترشّح المغرب، ثمّ باعتباره المؤسّسة الدستورية الكفيلة بوضع تقرير حول وضعية حقوق الإنسان في البلاد. وفي هذا السياق، جاء التقرير المُنجز "دراسة تحليلية لحقوق الإنسان في المغرب كمستضيف لكأس العالم 2030"، الذي نشر في الموقع الرسمي لـ"فيفا" في 31 يوليو.
يرصد التقرير وضعية الحقوق الأساسية (المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية)، كما يُرشد إلى ضرورة الالتزام بتعهداتٍ عديدة قبالة النظام الدولي لحقوق الإنسان، والتي تعني أنّ المغرب سيظلّ ملفه على كفّ عفريت ما لم يفِ بها، وفق جدولة جدّية واضحة خلال السنوات الستّ المُقبلة. يعي المرء، بعد الاطّلاع على مضامين التقرير التفصيلية، أنّ المغرب مُقبلٌ على حزمة من التطلّعات التي ستميّز سنواته المُقبلة، بل يظهر بوضوح أنّ عديداً من المبادرات السياسية والحقوقية التي سيقدم عليها النظام الحاكم في مُقبل الأيام لن تنفصل عن سياق الاستعداد لهذه التظاهرة العالمية.
ليس أمام المغرب من خيار إلّا الاندماج أكثر في المنظومة العالمية، حقوقياً وسياسياً
ولذا، بدأت معالم التحضير لهذه المناسبة في الظهور في مستوى البنيات التحتية، الآخذة في التحسّن شيئاً فشيئاً، وإن بإيقاع بطيء لا ينسجم مع حجم المنافسة العالمية. وكذلك الإعداد لإصدار تعديلاتٍ على مدوّنة الأسرة، تنسجم وسقف التعهدات الواردة في التقرير، سواء بالنسبة لحقوق الزوجات والمرأة عموماً، وبالنسبة للأطفال. وفي سياق هذه الاستعدادات أيضاً، يمكن أن نفهم سلسلةَ الإعفاءات أخيراً، التي بموجبها أُطلِق عديد من سجناء الرأي والصحافيين، وهي تغيّرات إيجابية وجزء من التوصيات التي كان قد أوصى بها المجلس في تقارير محلّية سابقة. من دون أن نغفل إنشاء محطّات تحلية المياه (بلغت 14 محطّة مع برمجة إنجاز 22 محطّة أخرى)، استجابة لأزمة المياه المصاحبة للتغيرات المناخية وموجة الجفاف المتتالية التي ضربت المغرب (أنظر مذكّرة المجلس "الحقّ في الماء... مداخل لمواجهة الإجهاد المائي بالمغرب"، أكتوبر/ تشرين الأول 2022).
إذاً، تبيّن هذه الأمور كلّها أنّ البلد ليس أمامه من خيار إلّا الاندماج أكثر في المنظومة العالمية، حقوقياً وسياسياً، وهي الصيغة التي اصطلح عليها التقرير بعبارة "مصادقة المغرب على العديد من القوانين الدولية"، المتعلّقة، مثلاً، بحقوق تشغيل عاملات المنازل وشروطه، واختصاص المحاكم العسكرية بالجرائم العسكرية، أو تلك المرتكبة في زمن الحرب، وحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، وقانون منع الاتّجار بالبشر، وقانون مكافحة العنف ضدّ المرأة، والاعتراف بالأمازيغية لغةً رسميةً، والمبادرة الوطنية للتنمية البشرية، ومبادرة مكافحة الفقر والهشاشة، وسياسة الهجرة غير النظامية، وإصلاح المؤسّسات المالية... إلخ.
تقتضي عملية الإصلاح إفراغ السجون من بقيّة المعتقلين (معتقلي حراك الريف)، وفتح المجال مُجدّداً أمام الصحف ووسائل الإعلام المستقلّة...
هذه الإصلاحات كلّها، وغيرها، جوانبٌ أخذ التقرير على عاتقه التنويه بها، واعتبارها مكتسباتٍ تُقوّي ملفّ المغرب، لكنّه في المقابل دعا إلى إعادة النظر في مجموعة من الملفّات الحسّاسة الأخرى، التي تحظى بمكانة حقوقية قوية عالمياً، أوّلها إلغاء عقوبة الإعدام، إلى جانب إلغاء تجريم العلاقات الرضائية خارج مؤسّسة الزواج، والدعوة إلى تجريم الاغتصاب الزوجي، ومزيد من المطالب التعديلية الخاصّة بمدوّنة الأسرة، التي من الواضح أنّ المجلس يرى أنّ عدم إحداث تعديلات بخصوصها سيفقد هذه المدوّنة قيمتها الدولية، بالأخص مسألة إلغاء المادة 20 من مدوّنة الأسرة الخاصّة بزواج القاصرات دون سنّ 18، وإلغاء ما اعتبره التقرير أحكاماً تمييزية ضدّ النساء، وضمان المساواة في مسائل الحضانة والأطفال والممتلكات والميراث، وكذلك إلغاء القوانين التمييزية تجاه الأمّهات العازبات والأطفال المولودين خارج مؤسّسة الزواج.
هذا، بالإضافة إلى الحقوق المدنية والسياسية العامّة أو تلك المطبّقة في الأحداث الرياضية الكبرى، من قبيل حقوق العمّال، عبوراً إلى مسألة التمييز الرقمي، والتي تمسّ نقاطاً حسّاسة بالنسبة للمجتمعات المسلمة، كحقوق المثليين، إلى جانب حقوق الأجانب المتعلّقة بالإقامة والتجنيس. وينتقد التقرير عدم اعتماد المغرب بعد استراتيجيةً واضحةً وخطّةَ عملٍ مدروسةٍ لمعالجة قضايا حقوق الإنسان، وهي المسألة المطلوبة بإلحاح بالأخصّ في سياق الإعداد لكأس العالم. ومنها أيضاً الحقّ في بيئة نظيفة ومستدامة، ارتباطاً بتحدّيات توافد المشجّعين من بلدانهم نحو البلدان المضيفة لكأس العالم، التي من شأنها التسبّب في انبعاثات تزيد مستويات الاحتباس الحراري، وتأثيرات إنشاء ملاعبَ ومرافقَ رياضيةٍ جديدةٍ، بالإضافة إلى تحسين وضع المهاجرين ومنحهم حقوقهم في تكوين نقابات وجمعيات.
عديدٌ من المبادرات السياسية والحقوقية التي سيقدم عليها النظام الحاكم في مُقبل الأيام لن تنفصل عن سياق الاستعداد لهذه التظاهرة العالمية
هذه كلّها، كما نلاحظ، قضايا حقوقية ملحّة لا تقبل التسويف والمناورة، ستضع المغرب بلداً مضيفاً على المحك، ولهذا، لا بدّ له من التفكير في صيغة واقعية وجدّية في التعامل معها، باعتبارها عقباتٍ وتحدّياتٍ ليست بالهيّنة، فتوفير الدعم المالي الخاص بإعداد بنية تحتية تنسجم وحجم هذه التظاهرة العالمية، مسألةٌ جدّ حرجةٍ في مثل هذه الظروف الاقتصادية الصعبة، أمّا البعد الحقوقي المرتبط بالتعبير عن الرأي والحرّيات العامّة فهو أيضاً من المشاكل التي لا يزال النظام المغربي يترنّح في مسألة التعاطي معها، والتي لطالما جعلها شكلية لا يراد لها تجاوز المرحلة "الانتقالية"، لذا، ففعلية الإصلاح تقتضي إفراغ السجون من بقيّة المعتقلين (معتقلي حراك الريف)، وفتح المجال مُجدّداً أمام الصحف ووسائل الإعلام المستقلّة، والجمعيات الحقوقية، والمنظّمات الدولية، للوجود والتعبير والحكامة والانتقاد، والمشاركة في صناعة هذا الحدث ونجاحه.
هي فرصة كبرى، لا يمكن الجزم بمستويات نجاح المغرب في استغلالها لزحزحة واقعه الاقتصادي والسياسي والحقوقي والتنموي، كما لا يمكننا التكهّن بمستويات الأثر المؤسّساتي الذي ستخلّفه، لكنّ الذي ندرك جيّداً أهمّيته أنّ الانخراط مع دول من قبيل البرتغال وإسبانيا مسألة تعني الاستفادة والتعلّم والمشاركة، وتعني فتح البلاد على مرآة العالم، كما أنّ التعهّد بمزيد من الالتزامات الحقوقية والمؤسّساتية، هو الآخر يعني التقدّم خطوات لا يمكن التراجع عنها، وإلّا فإنّ نتيجة ذلك ستكون معلومةَ العواقب. وأخيراً، فإنّ القدرَ قد يلعب لصالح الشعب المغربي الراغب في تطوّر دخله الشهري ونمط عيشه ومدنه ومؤسّساته ومرافقه العامة، كلّها صور سيكشف الواقع حقيقتها في السنوات المُقبلة.