الشبه العائلي ... الدولة اليهودية وأخواتها
كاتب وباحث فلسطيني. أستاذ للفلسفة في جامعة القدس المحتلة، نال الدكتوراة من جامعة ويسكونسين في الولايات المتحدة، عام 1982، عمل سنوات أستاذا في جامعة بير زيت، له دراسات ومقالات عديدة عن الخيار الديمقراطي وحقوق الإنسان.
نعرف جيدًا كيف يشبه أفراد العائلة الواحدة بعضهم بعضًا. فهذا يشبه أباه أو أخاه أو خاله أو عمّه أو جدّه، وتلك تشبه أمها أو أختها أو جدّتها أو خالتها أو عمّتها. وقد يأخذ الشبه العائلي، بالطبع، تنوعاتٍ أخرى. كما نعرف جيدًا كيف يتم التعرف على وجه الشبه أو أوجهه. هذا على مستوى الصفات الظاهرة أو المدركة حسيًا. وهناك، إضافةً، صفات غير ظاهرة يطاولها الشبه العائلي، وهي على نوعين رئيسين: جيني وجمالي. للأول علاقة بالموروث من المواهب والقدرات والميول والطبائع، وللثاني علاقة بالصفات ذات الطابع الجمالي، مثل الجمال والنغاشة والرشاقة والأناقة وخفة الروح، أو عكس هذه الصفات، بعضها أو كلها. علمًا أن الصفات الجمالية، وخلافًا للصفات الأخرى، الظاهرة منها وغير الظاهرة، ذات طابع علائقي، أي ذات علاقة بين المدرَك حسيًّا (بفتح الراء) وعين الناظر أو الحسّ الداخلي للمتأمل. ولكن، وهذا هو المهم هنا، رغم تشابه أفراد العائلة الواحدة في الصفات على أنواعها المختلفة، لكل فردٍ في العائلة هويته الشخصية الفريدة، المستقلة والمميزة. بكلمات أخرى، لا يجوز اختزال هوية الفرد إلى مجموع صفاته، الموروثة منها والمكتسبة. هناك، على ما يبدو، وخلافًا لما يدّعيه الشكّيون في الفلسفة، الجوهر هو حامل هذه الصفات جميعها. أترك لمقام آخر طبيعة هذا الجوهر، وإذا كان مادة (كما يقول الماديون) أو روحًا (كما يدّعي المثاليون وغيرهم).
وكما أن هناك شبهًا عائليًا بين أفراد العائلة الواحدة، هناك، مجازًا، شبه عائلي بين الفنون الجميلة المعروفة، فالموسيقى تشبه الشعر، والشعر يشبه الرواية والمسرحية المكتوبة، والرسم يشبه النحت، والنحت يشبه العمارة. والأداء المسرحي كثير الشبه بالأداء السينمائي. وهناك من قال إن الشعر هو رسم بالكلمات، وهكذا. هذا على مستوى الصفات الظاهرة أو المدركة حسيًا. أمًا على مستوى الصفات غير الظاهرة، فهناك مدرستان متنافستان حول تحديد الصفة أو الصفات المشتركة بين الفنون الجميلة كلها، فنون الزمان وفنون المكان على حد سواء. واحدة تقول إن الفنون الجميلة، وخلافًا للحرف المختلفة، تمثل الواقع أو تقلده أو تحاكيه، كل بطريقتها، بينما تقول الثانية إن الفنون الجميلة تعبّر عن المشاعر والعواطف كل بطريقتها، مشاعر الفنان والمتلقي وعواطفهما. ولكن، وهذا هو الأهم هنا، لكل فن من الفنون الجميلة هويته الفريدة، المستقلة والمميزة.
أقلية أصلانية مميّزة بعرقها وثقافتها بقيت بعد التطهير العرقي و/ أو الطرد الجماعي، وواجهت تمييزًا عنصريًا من أكثرية استعمارية صنعتها الهجرة
.. وهناك، إضافةً، شبه عائلي، مجازًا، بين دولة إسرائيل الصهيونية وأخواتها، تلك الدول التي نشأت بالاستعمار الاستيطاني والهجرة، مثل الولايات المتحدة وكندا وأستراليا وجنوب أفريقيا ونيوزيلندا. في كل من هذه الدول، ما عدا جنوب أفريقيا، هناك أقلية أصلانية مميّزة بعرقها وثقافتها بقيت بعد التطهير العرقي و/ أو الطرد الجماعي، وواجهت تمييزًا عنصريًا من أكثرية استعمارية صنعتها الهجرة. أما في جنوب أفريقيا فقد جرى إخضاع الأكثرية الأصلانية لحكم أقلية استعمارية مهاجرة، واتخذ الحكم هناك شكل الفصل العنصري عقودا، وذلك قبل انفراط عقده في النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي. وأصبحت جميع هذه الدول حاليًا دول جميع مواطنيها، ما عدا دولة إسرائيل الصهيونية، والتي ما زالت تعرّف نفسها دولة يهودية، أي دولة لليهود مواطنيها الفعليين، ودولة لليهود أينما وجدوا في أنحاء المعمورة. وهناك، رغم الاختلاف، أوجه شبه كثيرة بين أبارتهايد دولة جنوب أفريقيا قبل انفراط عقده والأبارتهايد الزاحف في دولة إسرائيل حاليًا.
وهناك أوجه شبه غير خافية بين هذه الدول الست، خصوصا حين يتعلق الأمر بقضايا اللغة والثقافة وملكية الأرض وتوزيع الموارد والخيرات وهوية المكان. والمشترك أيضًا بين هذه الحالات الست أن كلا منها دولة قامت على فوقية المستعمر والمهاجر واستعلائهما على الأصلاني، وعلى طرد الأول الثاني أو قتله أو إخضاعه. وفي المقابل، الأصلانيون في جميع هذه الحالات حريصون على حماية هوياتهم الثقافية وطرائق حياتهم المميزة وصيانتهما. وأخيرًا، هذا الشبه العائلي بين الحالات الست المذكورة، وهذا هو الأهم هنا، لا يلغي أو ينفي الهوية الفريدة، المستقلة والمميزة، لكل من هذه الدول.
ولدت الحركة الصهيونية، والدولة اليهودية في صلبها، على خلفية نشأة الدولة القومية في وسط أوروبا وشرقها
.. إلى جانب أوجه الشبه أعلاه، هناك أربعة أوجه اختلاف رئيسة بين دولة إسرائيل الصهيونية وأخواتها، الدول الخمس الأخرى:
الأول: الحركة الصهيونية، والدولة اليهودية في صلبها، ولدت على خلفية نشأة الدولة القومية في وسط أوروبا وشرقها، وما تخلل تلك النشأة من تمييز عنصري ضد اليهود، تتوج بمجازر ضدهم في روسيا في الثمانينيات من القرن التاسع عشر. أما الهولوكوست خلال الحرب العالمية الثانية فقد أعطى إلحاحًا وقوة دفع هائلة للفكرة والمشروع الصهيونيين، هذا في حين عمل الانتداب البريطاني في فلسطين من قبل على إنضاج الظروف المواتية لذلك. ثانيًا، الحركة الصهيونية، والدولة اليهودية في صلبها، استحضرت حقا تاريخيًا، دينيًا/ قوميًا، لعودة اليهود إلى فلسطين/"أرض إسرائيل" وسيادتهم الحصرية فيها. ثالثًا، الحركة الصهيونية، والدولة اليهودية في صلبها، تفتقر إلى الدولة الاستعمارية الأم، وذلك خلافًا للدول الخمس الأخرى. رابعًا، الفلسطينيون الناجون من التهجير والقتل والترويع، والذين أصبحوا مواطنين في دولة إسرائيل الصهيونية، هم الأقلية الأصلانية الوحيدة من بين الأقليات الأصلانية المشار إليها، والتي لها امتداد وطني وقومي خارج الحدود المعترف فيها للدولة.
وباختصار، هناك شبه عائلي بين دولة إسرائيل الصهيونية وكل من الدول الخمس الأخرى، والتي نشأت مثلها بالاستعمار الاستيطاني والهجرة. وهناك، في المقابل، صفات أو سمات تنفرد وتتميّز بها الدولة الصهيونية. أما جوهر هذه الدولة الصهيونية، أي حامل صفات الشبه والاختلاف في الوقت ذاته، فيكمن في فوقية الأغلبية اليهودية وسيادتها الحصرية في الدولة (ذات الحدود اللزجة)، تلك الفوقية اليهودية وتلك السيادة الحصرية وجدتا أوضح تعبير لهما في "قانون القومية" لعام 2018. غنيٌّ عن القول، في هذا الصدد، إن هناك علاقة تنافٍ متبادل ما بين تلك الفوقية اليهودية والسيادة الحصرية من طرف، ومفهوم ومشروع الدولة الديمقراطية لجميع المواطنين المتساوين في الحقوق من الطرف الآخر.
الفوقية والحصرية هما الجوزة الصلبة التي ما زالت عصيةً على الكسر، بدون كسرها لا تتحقّق المساواة التامة في حقوق المواطنة الديمقراطية لفلسطينيي الداخل
وفي الختام، مثلما هناك شبه عائلي بين أفراد العائلة الواحدة، في الصفات الظاهرة وغير الظاهرة، ومثلما هناك شبه عائلي (مجازًا) بين الفنون الجميلة الخمسة وتفرّعاتها، هناك أيضًا شبه عائلي (مجازًا) بين الدول الست المذكورة أعلاه، تلك الدول التي نشأت بالاستعمار الاستيطاني والهجرة، وبقيت في أكنافها أقلياتٌ أصلانية ناجية، ما عدا دولة جنوب أفريقيا حيث يشكل الأصلانيون غالبية السكان. تحوّلت كل من هذه الدول، ما عدا دولة إسرائيل الصهيونية، في نهاية طريق النضال الطويل، إلى دولة ديمقراطية، دولة جميع مواطنيها المتساوين في الحقوق. أما دولة إسرائيل الصهيونية فما زالت عصيةً على مثل هذا التحوّل، أساسًا بسبب طبيعة جوهرها، حامل صفاتها: فوقية الأغلبية اليهودية وسيادتها الحصرية في الدولة. هذه الفوقية وتلك الحصرية هما الجوزة الصلبة التي ما زالت عصيةً على الكسر. كيف يتم كسرها؟ بالنضال المستمر والضاغط. متى سيتم كسرها؟ لا أعرف. ولكنني أعرف التالي: بدون كسرها لا تتحقّق المساواة التامة في حقوق المواطنة الديمقراطية لفلسطينيي الداخل؛ وبدون كسرها لا يتحقق السلام الدائم أيضًا، ذلك السلام القائم على مبدأ الحقوق الفردية والجمعية المتساوية بين الإسرائيليين اليهود والفلسطينيين العرب جميعًا.
كاتب وباحث فلسطيني. أستاذ للفلسفة في جامعة القدس المحتلة، نال الدكتوراة من جامعة ويسكونسين في الولايات المتحدة، عام 1982، عمل سنوات أستاذا في جامعة بير زيت، له دراسات ومقالات عديدة عن الخيار الديمقراطي وحقوق الإنسان.