فكرتان تُفسّران سلوك حكومة الاحتلال
كاتب وباحث فلسطيني. أستاذ للفلسفة في جامعة القدس المحتلة، نال الدكتوراة من جامعة ويسكونسين في الولايات المتحدة، عام 1982، عمل سنوات أستاذا في جامعة بير زيت، له دراسات ومقالات عديدة عن الخيار الديمقراطي وحقوق الإنسان.
فكرتان تُفسِّران مواقفَ (وتصرّفاتِ) حكومة إسرائيل اليمينية المُتطرّفة برئاسة بنيامين نتنياهو فيما يتعلّق بالقضيتين المُترابطتين؛ صفقة تبادل الرهائن/ الأسرى، ووقف إطلاق النار والانسحاب من قطاع غزّة: الحيلولة دون قيام دولة فلسطينية مستقلّة أولاً، وترميم "الجدار الحديدي" ثانياً. أمّا فكرة "الجدار الحديدي" فمفادها امتلاك وتفعيل تلك القوّة العسكرية القادرة على ردع وهزيمة الأعداء المتربّصين، فرادى كانوا أو جماعات، وذلك قبل التوصّل إلى أيّ اتفاقيات أو تفاهمات معهم. وهي فكرة صاغها وروّجها زئيف جابوتنسكي في عشرينيّات القرن الماضي، أي قبل قيام دولة إسرائيل، وحين كان مشروع الدولة اليهودية لا يستثني الضفّة الشرقية لنهر الأردن. هاتان الفكرتان تُفسِّران تماسك الائتلاف الحكومي الذي يرأسه نتنياهو، وإصرار حكومة إسرائيل اليمينية على مواصلة الحرب التدميرية على قطاع غزّة حتّى هزيمة المقاومة، والإعداد لعملية أو ضربات عسكرية من شأنها ردع حزب الله من جهة ثالثة. وإذا كان الأمر كذلك، فليس صحيحاً ما يقوله ويردّده مُحلّلون سياسيون، عربٌ وغيرهم، الذين يُفسِّرون تصلّب نتنياهو في المفاوضات بشأن صفقة الرهائن/ الأسرى، وما يُقابلها من وقف الحرب والانسحاب من قطاع غزّة، بدوافعَ ذات علاقةٍ بمستقبله الشخصي/ السياسي، وبمستقبل الائتلاف الحكومي الذي يرأسه، ليس أكثر.
ليس صحيحاً تفسير تصلّب نتنياهو في المفاوضات ورفضه وقف النار بدوافعَ تتعلّق بمستقبله ومستقبل ائتلافه الحاكم لا أكثر
وليس من باب المصادفة أن تحمل العملية العسكرية الإسرائيلية التي انطلقت في 8 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، ردّاً على عملية طوفان الأقصى في اليوم السابق، مسمّى "السيوف الحديدية"، الذي يستحضر في الأذهان مباشرةً فكرةَ أو مبدأ الجدار الحديدي. لقد زعزعت عملية طوفان الأقصى، المباغتة والمكلفة مادّياً ومعنوياً وبشرياً، ذلك الجدار الحديدي، الذي فاخرت فيه حكومات إسرائيل المتعاقبة عبر السنين. فكانت ضروريةً وعاجلةً إعادة ترميم قوّة الردع المتداعية. وهذا يُفسِّر، أكثر من أيّ شي آخر، ذلك الانقضاض الثأري والهمجي على الإنسان والمكان والبنيان في قطاع غزّة، ذلك الانقضاض الذي ما زال على أشدّه بعد مضي أحد عشر شهراً، الانقضاض الذي لا يقف، كما نعرف، عند حدود قطاع غزّة، بل يتعدّاها ليطاول الضفّة الغربية، وما يُسمّى "محور المقاومة" أيضاً، مع العلم أنّ مبدأ الجدار الحديدي المُحدّث أو المُعدّل يتطلّب توطيد أواصر التحالف مع الولايات المتّحدة، القوّة العسكرية والاقتصادية الأعظم في العصر الحديث، فبدون مثل هذا التحالف تفقد فكرة الجدار الحديدي كثيراً من معناها وجدواها.
وتوازي فكرةُ أو مبدأُ الجدار الحديدي المذكور فكرةَ أو مبدأَ الحيلولة دون قيام دولة فلسطينية مستقلّة غرب نهر الأردن في تفسير تماسك الائتلاف الحكومي الذي يرأسه نتنياهو منذ بداية العام الماضي، ذلك الائتلاف اليميني الأكثر تطرّفاً منذ قيام الدولة العبرية. نتنياهو يفاخر ويجاهر بموقفه المعادي لقيام دولة فلسطينية مستقلّة قبل وبعد الحرب على غزّة، وشركاؤه في الائتلاف الحكومي الحالي، خاصةً حزبي الصهيونية الدينية، يغذّون هذا الموقفَ، ويُعبّرون عن ذلك بالأقوال والأفعال. والممارسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين في الضفّة الغربية، التي تشمل مدينة القدس الشرقية، خير دليل على ذلك.
في ظلّ هذه الحكومة اليمينية، خاصّة منذ اندلاع الحرب الوحشية على قطاع غزّة، ازدادت اقتحامات المدن والقرى والمخيّمات، خاصّة في محافظات شمال الضفّة الغربية (أدّت إلى ارتقاء ما لا يقلّ عن 660 فلسطينياً وجرح آلاف)، كما ازدادت مصادرة الأراضي لغرض تكثيف الاستيطان. وعادت الحواجز العسكرية الفاصلة بين المدن الفلسطينية، وبين كلّ مدينة ومحيطها من القرى والمُخيّمات، إلى ما كان عليه الحال أيّام انتفاضة القدس والأقصى قبل عقدين من الزمن. وعن الاعتقالات (طاولت ما يزيد عن عشرة آلاف فلسطيني) وهدم المنازل وعنف المستوطنين والضغوط الاقتصادية، فالحديث بلا حرج. كما لم يسلم الحرم القدسي الشريف من هذه الاعتداءات. ويُلوّح وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير، بغطرسته المعهودة، ببناء كنيس يهودي هناك. باختصار، الحرب المدمرة على قطاع غزّة، والاعتداءات المتصاعدة على الضفّة الغربية والقدس الشرقية، وتكريس الفصل بين غزّة والضفّة، تهدف بوضوح إلى سدّ الطريق على قيام دولة فلسطينية مستقلّة تحتضن شطري الوطن. وإنهاك السلطة الفلسطينية مالياً وقدرات حكم يصب في خدمة هذا الهدف المُشتهَى.
وإجمالاً، فإنّ ترميم الجدار الحديدي، الذي تصدّع بسبب عملية طوفان الأقصى، والحيلولة دون قيام دولة فلسطينية مستقلّة تجمع بين شطري الوطن، هما المادة اللاصقة بين مكوّنات الائتلاف الحكومي، الذي يقف نتنياهو في رأسه منذ بداية العام الماضي. هذه هي حكومة الحلم بالنسبة له، ولا بديل له منها، ولا بديل للشركاء منها، رغم التوتّرات التي تطغى في السطح أحياناً. هذه حكومة عصيّة عن التفكّك نتيجة التوتّرات الداخلية بين مُركّباتها. وإذا حدث وتفكّكت، يكون ذلك نتيجة أسباب خارجية، بمعنى خارج رغبة أو مصلحة المُكوّنات أو المُركّبات. غني عن القول في هذا الصدد إنّ بقاء هذا الائتلاف الحكومي الحالي يخدم المصالح الأخرى لنتنياهو، وفي رأسها إفلاته من المساءلة السياسية عن ذلك الفشل الذي أدّى إلى عملية طوفان الأقصى، وتعليق القضايا القانونية السابقة للحرب ضدّه، قضايا ذات علاقة بتهم الفساد والرشوة وخيانة الأمانة.
إذا كان ما ورد أعلاه صحيحاً، فلا مهرب من الاستنتاجات التالية. أولاً هذه الحكومة الإسرائيلية اليمينية المُتطرّفة معنية بمواصلة الحرب والقتال في قطاع غزّة وفي الضفّة الغربية وفي الحدود الشمالية إلى أن تُحقّق أهدافها، وهي لا تُعطي قضية تحرير الرهائن أولويةً على ذلك. وهي معنية كذلك بجرّ الولايات المتّحدة (المتمنّعة حالياً)، إلى مواجهة واسعة النطاق مع إيران.
ترميم الجدار الحديدي، الذي تصدّع بسبب "طوفان الأقصى"، والحيلولة دون قيام دولة فلسطينية ، هما المادة اللاصقة بين مكوّنات ائتلاف نتنياهو الحكومي
ثانيًا، بصفقة لتحرير الرهائن/ الأسرى أو من دونها، وبالانسحاب من محوري فيلادلفيا ونيتساريم أو من دونه، وبالانسحاب من قطاع غزّة أو من دونه، سوف يستمرّ حصار قطاع غزّة وفصله إدارياً وسياسياً عن الضفّة الغربية، وهذا يعني، من بين أمور أخرى، عدم السماح بعودة السلطة الفلسطينية لحكم القطاع، متجدّدة تلك السلطة أو غير ذلك.
ثالثًا، هذه الحكومة الإسرائيلية اليمينية المُتطرّفة عازمة على تكثيف الاستيطان في الضفّة الغربية، وعلى محاصرة وإنهاك السلطة الوطنية الفلسطينية مالياً ومن ناحية قدراتها في الحكم على حد سواء.
رابعاً، وفي المستوى الداخلي، نحن بصدد حكومة يمينية متطرّفة لا خشية من انفراط العقد بين مُركّباتها نتيجة توتّرات أو صراعات داخلية. انفراط العقد، إذا تم، فسيكون نتيجةَ ضغط شعبيّ داخلي أو/ وإملاء خارجي، أميركي أساساً.
بدل تركيز بؤرة الضوء في شخص نتنياهو، وأهدافه ودوافعه، وما يُقبَل وما لا يُقبَل به خدمة لمصالحه الأخرى (وهذا ما يفعله مُحلّلون سياسيون)، من الأولى والأجدر التركيز في اللّاصق الأيديولوجي الذي يربط بين مُركّبات هذه الحكومة الإسرائيلية اليمينية المُتطرّفة، التي تحظى بتأييد شعبي واسع أوصلها الحكم أصلاً، ولا يزال داعماً لها، ولما ترتكبه من الجرائم والفظائع ضدّ الفلسطينيين داخل غزّة وخارجها. هذه الحكومة اليمينية المُتطرّفة ليست مراميها وأهدافها عصيّةً على الإحباط، بفعل الصمود والنضال، كما بفعل الملاحقات في المحافل والمحاكم الدولية، كما بفعل إسناد أحرار العرب والعالم، وبما لا يستثني اليهود المناوئين لها، سواء داخل إسرائيل أو خارجها.
كاتب وباحث فلسطيني. أستاذ للفلسفة في جامعة القدس المحتلة، نال الدكتوراة من جامعة ويسكونسين في الولايات المتحدة، عام 1982، عمل سنوات أستاذا في جامعة بير زيت، له دراسات ومقالات عديدة عن الخيار الديمقراطي وحقوق الإنسان.