الشاهدة الشهيدة واستحقاق قضيتها الدولية
أمضت شيرين أبو عاقلة ربع قرن يمثّل النصف الثاني من ربيع عمرها، في توثيق الوقائع وروايتها بمهنية عالية وببسالة فائقة وذهن يقظ، وليس بين أربعة جدران أو خلف مكتب، بل في مناطق الخطر وتحت وطأة تيارات الضغط العالي للرصاص والقذائف. ولو قيّض لعمرها أن يمتدّ لواصلت رسالتها بغير انقطاع، فقد واظبت على القيام بمهمة رسولية، إذ تجدّ في سرد الانتهاكات والتعدّيات الجسيمة التي لا تنقطع يوماً بعد يوم، سعياً إلى ملاقاة يومٍ تتنفس فيه الصعداء مع أبناء شعبها وتلتقط أنفاسها، حين يبزغ فجر الخلاص الوطني من الاحتلال الصهيوني البغيض. وقد حقّقت هذه الشابة الطموحة، منذ بواكير عملها، وبدعم من المنبر الذي فتح أبوابه لها، نجاحا باهرا في التدليل على أن الإعلام الإسرائيلي ليس مصدراً موثوقا للأخبار المتعلقة خصوصاً بحياة شعبها الرازح تحت الاحتلال، وقد تكفّلت مع زملاء متمرسين لها في صنع إعلام متقدّم لا يلتف على الحقائق، ولا يمشي قربها بحذر وتلكؤ، بل يسمّي الأشياء بأسمائها. فهذا الاحتلال عدو للحياة وعدو للبشر، فينشط بالتنكيل بهم، بمختلف صنوف التنكيل والتقتيل، وعدو للحجر، إذ يهدم البيوت الآمنة وفق برمجة ممنهجة، وعدو للشجر، إذ يقتلع الأشجار المثمرة والمعمّرة. وهو سارق خسيس للماء والأرض، وتلك هي معالم المسيرة الصهيونية التي تجمع بين الوحشية والعنصرية، والسهر على تزييف الوقائع وتسويق الكذب. ولذلك وُضعت شيرين أبو عاقلة على قائمة بنك أهداف الاحتلال، وكان أن اقترف جريمته الدنيئة في استهداف المراسلة الصحافية وهي تؤدّي عملها في السابعة من صباح الأربعاء 11 مايو/ أيار الحالي على أبواب مخيم جنين، وكانت ترتدي مع زملائها ما يميّز المراسلين الصحافيين في الميدان. وبينما جهّز الاحتلال كذبةَ ادّعى مطلقوها أنها سقطت بنيران مسلحين فلسطينيين، فقد سارعت منظمة بتسليم الإسرائيلية إلى تكذيب الخبر، إذ أثبتت أن شيرين كانت على بعد مئات الأمتار من أزقة المخيم، وفي منطقة لم يوجد فيها أحد سوى الصحافيين وجنود الاحتلال. وقد انضمّت الشاهدة الشجاعة إلى قوافل الشهداء من شعبها بمن فيهم نحو أربعين صحافيا، وعدد من الصحافيين الأوروبيين الشجعان الذين سقطوا في الأرض المحتلة على أيدي القتلة أعداء الحقيقة.
نالت شيرين أبو عاقلة ثقة أنصار العدالة والحرية وفرضت احترامها على المراكز الدولية التي تؤمن بحرية التعبير
ولعل شيرين أبو عاقلة، بما ينقله عنها عارفوها من تواضعها وعفويتها، لم تعرف مدى عمق الأثر الذي يتركه حضورها على الشاشة وعلى أمواج الأثير، فقد أثارت جريمة اغتيالها صدمة دولية، وخصوصا لدى الديمقراطيات في الغرب التي "فوجئ" بعض مسؤوليها بحجم الوحشية الإسرائيلية في استهداف مراسة صحافية عزلاء. وبينما سعى القتلة إلى إسكات صوت الحقيقة، فإذ بنبأ استشهادها الأليم يتحول خلال ساعات إلى قضية دولية تتردّد أصداؤها في عواصم عديدة، بما في ذلك في أروقة الأمم المتحدة، وتتبدّى معها، مرة أخرى، صورة احتلال غاشم يعبّر عن نزعاته السلمية المزعومة بقتل المدنيين وترويعهم وهدم بيوتهم والاستيلاء على أرضهم ومياههم، ومناصبة رسل الحقيقة العداء القاتل.
والرهان الآن هو على الوفاء لدم الشاهدة الشهيدة، بمواصلة تعرية نظام الاحتلال العنصري ووضعه أمام المساءلة، وعلى شاكلة طلب المجموعة العربية في الأمم المتحدة إجراء تحقيق دولي مستقل، وهو ما طالبت به الأمانة العامة للمنظمة الدولية في إطار من التنديد الشديد بالجريمة، وكذلك ما تعهّدت به منظمة الصحافيين الدوليين بإحالة جريمة الاغتيال إلى المحكمة الجنائية الدولية، وضمن ملفٍّ يرصد جرائم الاحتلال ضد الصحافيين وقنوات الإعلام ويصدر الأحكام بشأنها، وهو ما تعهدت به أيضاً السلطة الفلسطينية حيال احتلالٍ لا يكفّ عن ارتكاب جرائمه، ويفرض، مع ذلك، تنسيقاً أمنياً على السلطة، تستجيب له بما يحفظ أمن المحتلين وحدهم دون الشعب الرازح تحت الاحتلال الذي يُستباح أمنه ليل نهار وعلى مدار الساعة. وهذا بعضٌ من رسالة شيرين أبو عاقلة، الممهورة بدمها الزكي طوال 25 عاما من المتابعة الدؤوبة والتقصّي الدقيق والتغطية الفورية والموضوعية بغير أن تكون منتمية لفصيل أو تيار حزبي أو محور سياسي، عدا الانتماء لقضيتها المقدّسة، قضية وطنها وشعبها، وهو ما أكسبها محبّة الملايين من الفلسطينيين والعرب الذين محضوها ثقة مستحقة، ومعهم أنصار العدالة والحرية، وما فرض احترامها على المراكز الدولية التي تؤمن بحرية التعبير، ولا تجد مناصاً من احترام حق الشعوب في تقرير مصيرها وتفعيل أحكام القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة وتصطدم بالصلف الإسرائيلي الذي يلقى تغطية سياسية تقليدية من واشنطن.
في حالة شعب فلسطين منذ قرن يكتفي المجتمع الدولي بالوقوف متفرّجا أو يجري التواطؤ مع المحتلين وتقوية شوكتهم
والثابت في هذه الأثناء، كما من قبل، أن استثناء دولة الاحتلال من المساءلة ووضع عقوبات عليها يهدد بإدامة الصراع ومفاقمته، كما يهدّد مصداقية إنفاذ القانون الدولي وتطبيق معايير العدالة، وإذ يهبّ المجتمع الدولي لمناصرة أوكرانيا في وجه الغزو الروسي، مع وضع العقوبات على الدولة الغازية، وهو أمرٌ حميد ومطلوب، فإنه واجب الاتباع حيثما كان هناك خرق للقانون الدولي واستهتار بالشرعية الدولية وتعريض الشعوب ومقدّراتها للاقتلاع والتدمير، وهو حال شعب فلسطين منذ قرن، حيث يكتفي المجتمع الدولي بالوقوف متفرّجا أو يجري التواطؤ مع المحتلين وتقوية شوكتهم، كما كان الحال مع السجل الاستعماري الأسود للانتداب البريطاني (1920 ـ 1948)، والذي ارتبط بتمكين الحركة الصهيونية الغازية من الاستيلاء على أرض فلسطين وتشريد شعبها، أو الحلف الأميركي الإسرائيلي على مدى عقود الذي سد الأبواب أمام تسوية عادلة، ووضع أميركا في خانة دعم دولة مارقة تمارس الإرهاب ضد المدنيين، بل ضد شعبٍ بأسره جهاراً نهاراً، وكجزء من عقيدتها العنصرية. ولعلها ليست من أبواب المصادفات أن يسفك دم شيرين أبو عاقلة، وأن يسقط مزيد من الشهداء والضحايا في هذا الظرف الذي يصادف ذكرى قيام الدولة الصهيونية، فقد نشأت هذه الدولة بالإرهاب، وطبع الإرهاب مسيرتها، حتى تحوّلت إلى قلعة للوحشية والعنصرية في الشرق الأوسط، وسط صمود راسخ مستدام للشعب الضحية. ولن يكون لهذا الصراع الطويل من نهاية إلا بدفع الغزاة الثمن، وتوقيع العقوبات الواجبة على الدولة المارقة، وهو ما يتعين أن يدركه الرئيس الأميركي جو بايدن، الذي يستعد لزيارة المنطقة قريبا، ويدرك معه أنه قد آن الأوان لوقف مفاعيل الانحياز الهستيري لدولة الاحتلال الذي يلطخ صورة أميركا ويطعن صدقية سياساتها.