السيسي في جيبوتي .. البحث عن دور
زار الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، عدّة ساعات، جيبوتي الخميس الماضي، في أول زيارة لرئيس مصري منذ استقلال هذا البلد عام 1977. ويتشارك الرئيس الجيبوتي إسماعيل عمر جيلي مع السيسي توجساً إقليمياً بسبب تراجع أدوار بلديهما في القرن الأفريقي، وصعود نجمي رئيس وزراء إثيوبيا، آبي أحمد، ضد السيسي، ورئيس وزراء إريتريا، أسياس أفورقي، على حساب جيلي. وتُعَدّ الزيارة تحرّكاً دبلوماسياً مصرياً تحت استراتيجية شد حزام الأطراف لغريمتها أديس أبابا، قبيل الملء الثاني لسد النهضة، بينما يحاول جيلي تخفيف الضغط وتبديد المخاوف من إمكانية أن تتحوّل إثيوبيا نحو جارتها أسمرة في استيراد بضائعها الخارجية، إذ تحرّك السلع الإثيوبية موانئ جيبوتي بنسبة تقدر 70%. ويمكن القول إن جيبوتي ومصر تعيشان في مرحلة ضبط الأعصاب وعدم الاستباق لتفعيل أزمات دبلوماسية مع إثيوبيا التي تعيش في وضع داخلي أمني مربك منذ الحرب على إقليم تيغراي في نوفمبر/ تشرين الثاني الفائت.
اللافت أن السيسي يجري تحرّكاً دبلوماسياً لدول القرن الأفريقي منذ إعلان الملء الأول لسد النهضة، واستهل زيارته في جنوب السودان في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، وما زال يواصل تحرّكاته أفريقياً في معركته للبحث عن تحالفات إقليمية للتأثير بالقرار الإثيوبي، قبل الشروع في الملء الثاني لخزانات سد النهضة، بالضغط الدبلوماسي من جهة والمناورات العسكرية مع دول مجاورة لإثيوبيا، تحت مسميات "حماة النيل" و"نسور النيل" و...، هذا بالإضافة إلى محاولاتٍ مصريةٍ لتشييد قواعد عسكرية مصرية في جيبوتي وإريتريا والسودان، لمضاعفة جهودها الدبلوماسية والعسكرية تجاه أديس أبابا، لكن كل هذه التحرّكات لن تثني النظام الإثيوبي عن المضي في بدء الملء الثاني للسد.
يقيم في المخيال الاستراتيجي للعبة المصالح الكبرى في القرن الأفريقي تطبيق مفهوم القوة الناعمة، ومدى تأثيرها في بناء التحالفات والاستقطابات
ثمّة مفارقات عدة بشأن مدى نجاعة التحرّك المصري المتوقع لاستقطاب دول القرن الأفريقي والوقوف إلى جانبها، فهل لدى مصر إمكانات لتسويغ سياساتها من خلال ضخ موارد مالية ومنح مساعدات إغاثية لإيجاد سياسة المصالح مع حلفائها الجدد؟ فإرسال شحنة دوائية إلى جيبوتي بعد يوم من زيارة السيسي، هل يمكن أن يفتح للقاهرة موطئ قدم عسكري لها في جيبوتي المطلّة على باب المندب؟ وأيهما أكثر تأثيراً بين مصر وإثيوبيا في القرن الأفريقي، وحتى بالنسبة إلى القارّة الأفريقية التي يقع مقرّها في أديس أبابا التي تحظى بتحالفاتٍ دولية، مثل روسيا وفرنسا والصين.
يقيم في المخيال الاستراتيجي للعبة المصالح الكبرى في القرن الأفريقي تطبيق مفهوم القوة الناعمة، ومدى تأثيرها في بناء التحالفات والاستقطابات، هذا فضلاً عن إطار مفاهيم التدخل الدولي الإنساني والسياسي، فما يحرّك الاقتصاد الجيبوتي حالياً هو الضرائب المفروضة على النفوذ الأجنبي في سواحلها، والقواعد العسكرية المنتشرة فيها، وهو ما تحقّق من خلاله أرباحاً جيدة، نظير تهافت قوى دولية كبرى نحوها، بحثاً عن موطئ قدم عسكرية لها في هذا الشريط والممر الاستراتيجي البارز، إذ تسعى كل دولةٍ لحماية مصالحها أمنياً واقتصادياً. فهل في وسع مصر السيسي أن تؤدي هذا الدور مثلاً، وتضخّ ملايين الدولارات، عبر استئجار قاعدة عسكرية قبالة البحر الأحمر لممارسة ضغطٍ صلبٍ لحماية مصالحها المائية والأمنية على حساب إثيوبيا المتنفذة والصاعدة في منطقة القرن الأفريقي؟ يمكن الجزم بأن مصر التي تعاني من مديونية باهظة ومرشّحة للارتفاع، التي ارتفعت عام 2020 بنسة 14% (65.2 مليار دولار) ليس من السهل عليها مواجهة إثيوبيا عبر ممارسة استراتيجية التدخل الناعم ومزاحمة الكبار في هذه البقعة الاستراتيجية من أفريقيا. يمكن أن تؤتي جهود مصر الدبلوماسية راهناً على صعيد عدم قانونية أديس أبابا في ملء سد النهضة ثانية، لكن تقنياً من الصعوبة بمكان وقف الخطط الإثيوبية نحو الشروع في الملء الثاني للسد .
تدفع القاهرة اليوم ضريبة باهظة للعودة إلى حلفائها التقليديين في القرن الأفريقي، فالعلاقات مع مقديشو ما زالت تخيّم عليها صدمة جفاء القطيعة عامين منذ أزمة الخليج 2018
واضح أن مصر تدفع ثمن أخطاء حسابات الجيوبوليتيك والتدافع الدولي في القرن الأفريقي، فغاب حضورها كما دورها في وقتٍ كان من المفروض أن تشد أطراف إثيوبيا من الداخل ومن جوارها الإقليمي. كذلك تدفع مصر ثمن حضورها الباهت وتناسيها أزمات الصومال الأمنية والسياسية المتراكمة منذ فشل مؤتمر القاهرة عام 1998 بين الفرقاء الصوماليين. تدفع القاهرة اليوم ضريبة باهظة للعودة إلى حلفائها التقليديين في القرن الأفريقي. فالعلاقات مع مقديشو، وإن رُمّمت أخيراً، إلا أن صدمة جفاء القطيعة عامين منذ أزمة الخليج عام 2018 ما زالت تخيّم على المشهد الدبلوماسي بين الدولتين، فتحفظ الصومال مرتين على قرار جامعة الدول العربية المؤيد العام الماضي لموقف مصر والسودان ضد إثيوبيا يشي بأن مقديشو لم تعد في سياسة "إمّعة" مع مصر، التي ضغطت على صعيد العلاقات بين الدولتين ردحاً من الزمن.
لن تختفي التحرّكات الدبلوماسية والمناورات العسكرية المصرية في المدى القريب، لكن جدوى تلك التحرّكات المصرية في هذا الوقت، وأهميتها تجاه وقف مخطّطات إثيوبيا، هي أمورٌ لا بد من الوقوف على تفاصيلها من كثب. فإثيوبيا التي رُوّج سابقاً، وخصوصا بالنسبة إلى المؤرّخين المصريين، أنها دولة توسّعية في المشرق الأفريقي، وورثت إرث المستعمر الغربي في أفريقيا، وتتوسّع مستقبلاً لهضم حقوق مصر المائية، ما لم تأتِ باستراتيجية فعالة غير البكاء والتودّد على جوار أديس أبابا من دون مقابل يثير شهية تلك الدول. فجيبوتي حريصةٌ على مراعاة غضب إثيوبيا، بحكم ارتباطها اقتصادياً بها وحتى أمنياً.
يبدو الخيار العسكري غير واقعي، فكلفة افتعال حرب غير متوقعة لنتائجها المستقبلية ليست حكيمة
مع تلاشي كل الخيارات الدبلوماسية المصرية لوقف الملء الثاني لسد النهضة، يرد في أذهان الجميع سؤال الخيار العسكري، ومدى كونه خياراً، لا محض فكرة فقط بالنسبة إلى القاهرة، عبر شنّ ضربة جوية محدودة النتائج والآثار على السد. يبدو هذا الخيار غير واقعي وليس مناسباً في هذا الظرف، فكلفة افتعال حرب عسكرية غير متوقعة لنتائجها المستقبلية ليست حكيمة، وهو ما يثبت مقولة المبعوث الأميركي إلى القرن الأفريقي، جيفري فيلتمان، أن "انفجار حرب إقليمية في المنطقة يمكن أن يظهر ما يجري في سورية مجرد لعب الأطفال"، ما يعطي متّسعاً من الوقت لأديس أبابا للمضي نحو تحقيق حلم اقتصادي، من خلال تحقيق عوائد مالية ضخمة من مشروع سد النهضة.
في النهاية، تبدو خيارات مصر تجاه سياسات إثيوبيا الرامية إلى الاستفادة من مشروع سد النهضة الذي جاوزت تكلفته نحو أربعة مليارات دولار، محدودة، وكلما تقدّمت إثيوبيا خطوات نحو إنجاز هذا المشروع، تتضاءل خيارات القاهرة، وتضيق مساحات التحرّك لممارسة ضغط إقليمي وأفريقي ودولي لوقف مشروعٍ تتشابك فيه مصالح مختلفة بين دول إقليمية وأخرى دولية، التي غالباً هي الممولة لهذا المشروع الذي استنزف مقدّرات إثيوبيا واقتصادها الذي يترنّح حالياً بسبب تبعات كلفة الحرب في إقليم التيغراي ومشروع سد النهضة.