السياسة العربية بوصفها علماً
اعتبر ديوان الخدمة المدنية في الأردن أنّ تخصص العلوم السياسية من أكثر التخصّصات الراكدة على مستوى الجامعات عموماً. وهي نتيجة قد تكون مرتبطة بطبيعة الوظائف المُناطة بهذه الجهة وبالعمل الحكومي، لكنّها لا تنطبق بالضرورة على ما هو خارج هذا الإطار (الرسمي). ولكن، للأسف، لا توجد أي دراسات أو إحصائيات تؤشّر لنا عن مصير خرّيجي طلاب السياسة أو الفرص التي يمكن بناؤها لهم، وما يقتضيه ذلك من توفيقٍ ضروريٍّ وإلزامي بين متطلبات العمل والتعليم والمهارات والمعارف المفترض أن يتحصّل عليها طالب العلوم السياسية بعد تخرّجه من الجامعة.
هكذا اعتمدت الدوائر الأكاديمية كلمة ديوان الخدمة المدنية، على الرغم من أنّ السياقات الحالية الأردنية، مثلاً، قد تؤشّر إلى نتيجة أخرى مرتبطة بمسار التحديث السياسي من جهة، وازدهار دور مؤسسات المجتمع المدني والمنظمات الدولية والمحلية وتدريس مواد الديمقراطية في المدارس الحكومية وازدياد الاهتمام بقضية الأحزاب السياسية والديمقراطية والتنمية والسياسات العامة، ما كان يفترض أن ينعكس على حوار بين أقسام العلوم السياسية في الجامعات الأردنية والتعليم العالي والمؤسّسات المهنية المعنية بالأمر، لكن مثل أيّ أمرٍ آخر، نعيش في الأردن في جزر معزولة تفتقر إلى الحوار المنتج العقلاني الفعّال بين المؤسسات والأوساط المتعدّدة.
تولدت لديّ المقدمة أعلاه وأنا أقرأ الدراسة المهمة والشائقة لمروة فكري في مجلة "سياسات عربية"، التي يصدرها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (العدد 60/ 2023)، بعنوان "حال العلوم السياسية في مصر: تجربة قسم العلوم السياسية في كلية الاقتصاد بجامعة القاهرة"، وهي دراسة تدخل في إطار ما يطلق عليها "مجتمعات المعرفة" التي تمثّل البيئة المنتجة للمعرفة أو الراعية لها، وتستحضر مصطلحات على درجة عالية من الأهمية، لكنّها ضعيفة في المجال العربي، مثل الجماعات العلمية Scientific Communities، بوصفها مساراً مهماً ورئيسياً في إنتاج المعرفة وتطورها في العالم المعاصر، كما يبرهن كارل بوبر وتوماس بيكون. وتقوم دراسة مروة فكري على سؤالين رئيسين: هل هنالك جماعة علمية مصرية في حقل العلوم السياسية؟ وما هي اهتمامات العاملين في حقل السياسة في جامعة القاهرة من خلال مجموعة من الدوريات المهمة؟ وقد رصدت الدراسة تطوّر تدريس العلوم السياسية في جامعة القاهرة والمقرّرات وأوصافها وتأثير الحقب السياسية المتلاحقة عليها.
ما قد يضعف من قوة دراسة فكري أنّها اعتمدت على استبانة لعدد محدود من الإجابات (إذ أجاب عليها فقط 22 من أصل 80 من الأساتذة في قسم العلوم السياسية بجامعة القاهرة ومن المعاونة، واختيار العينة ومدى كفاءتها وكفايتها كان يفترض أن يكونا موضحين أكثر في الدراسة)، إلاّ أنّها تلقي الضوء على مجموعة مهمة ورئيسية من الأسئلة والمفاهيم، وتحيلنا إلى ضرورة الانتقال من الجهود الفردية إلى الجماعية ومن الفوضى إلى الإطار المنظّم في التدريس والبحث العلمي في مجال العلوم السياسية. وليس المقصود هنا التنظيم بالمعنى الإجباري، بل المعنى المعرفي الاختياري، إذ يمكن أن تنقسم الجماعة العلمية إلى جماعات علمية فرعية متخصّصة أو مختلفة بحسب مقاربتها النظرية والأيديولوجية والفكرية والتخصّصية.
لا يقل تقديم عبد الوهاب الأفندي لهذا العدد المتخصّص بتدريس العلوم السياسية في دورية سياسات عربية، فهو بحاجة إلى وقفات مهمة ورئيسية من المعنيين بتدريس السياسة بوصفها علماً في العالم العربي. وهنا من الضروري الإشادة (ودعم) بجهود المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ومعهد الدوحة للدراسات العليا في تركيز الضوء على تطوير العلوم الاجتماعية والإنسانية عربياً، وعلى ما يوفره من أدبيات ومراجع وينظّمه من مؤتمرات في هذا المجال المهم. ونطمح أن يكون هنالك بناء تراكمي لهذه الجهود وتطوير لمفهوم جماعات علمية عربية في حقل السياسة في العالم العربي.
ومن الضروري في خاتمة هذا المقال الإشارة أيضاً إلى دراسة مهمّة سابقة لوليد عبد الحيّ في مجلة عمران (الصادرة أيضاً عن المركز العربي، عدد 153) بعنوان "العلوم السياسية في الجامعات العربية: اقتراح نموذج"، إذ يقدّم قراءة مهمة مسحية لاهتمامات الجامعات العربية في العلوم السياسية، ثم يقترح الاهتمام بخطّة تدريسية تركّز على الديمقراطية والتكامل القومي وإدارة العلاقة العربية الدولية ومناهج البحث العلمي، وهي حقولٌ رئيسية يمكن أن يضاف إليها حقل السياسات العامة والمجتمع المدني.