السوريون قبل العاصفة وبعدها .. لا فرق
وماذا بعد؟ ماذا ينتظر السوريون؟ كيف يُبنى المستقبل، ولا حاضر يمكن البناء عليه؟ من يتابع أحوالهم في الداخل السوري، وفي مخيمات اللجوء، الداخلية وخارج سورية، كلبنان على سبيل المثال، لا بدّ أن يصطدم بحائط سميك، وأن يستسلم للعجز أمامه، واليأس من إمكانية النهوض، ما دام أنّ شروط الحياة على هذه الشاكلة، وما دام أيضاً ليس هناك بارقة أمل في حلّ سياسي، بل ليس الحلّ بيد السوريين إنّما مرهونٌ للخارج.
عاصفة شرسة في غير وقتها ضربت المنطقة، ولم تتنبّأ بها مديرية الأرصاد الجوية، أو تنبّأت، لكنّ عجز الدولة عن تقديم أي شيءٍ جعلها تشيح النظر عنها، وتواربها، أو، إذا عدنا إلى مقولة الراحل ممدوح عدوان "الإعلام السوري يكذب حتى في النشرة الجويّة". كان لا بدّ بالنسبة إليها أن تعلن نشرة جوّية مضلّلة، تقول إنّ هناك ارتفاعاً في درجات الحرارة بأعلى من المعدل بدرجتين إلى أربع، ويكون الجو صحواً بشكل عام، مع ظهور بعض السحب المتفرّقة، أما الرياح فهي جنوبية غربية إلى شمالية غربية بين الخفيفة والمعتدلة مع هبّات نشطة أحياناً، بينما تكون جنوبيةً غربيةً في المنطقة الساحلية بين الخفيفة والمعتدلة، والبحر خفيفٌ إلى متوسط ارتفاع الموج. هذا ما كان بالنسبة ليوم الجمعة. أما السبت، حيث كانت العاصفة في الليل، فتقول إن درجات الحرارة ستنخفض لتقترب من معدّلاتها السنوية، مع فرصة لهطول زخّات رعدية في المناطق الساحلية والجنوبية الغربية .. إلخ. وكانت أكثر المناطق المتضرّرة الساحل السوري، واللاذقية تحديداً، كذلك لبنان، وكانت مخيمات اللاجئين السوريين صورةً صارخة لأحوال شعبٍ دُفع منذ عشر سنوات في أنفاق المجهول، في العيش المؤقت الذي ولدت فيه أجيالٌ تكبر في هذا المؤقت، من دون حلم أو طموح أو وعد أو تخطيط أو شكلٍ لما بعد المؤقت.
الأزمة ستطول، وسيطول اختناق الناس
في المشاهد المصوّرة عن واقع المخيمات ما يفوق الوصف، سواقي الماء تجري بين الخيم وفي داخلها، من استطاع رفع فرشه فوق الأرض بما توفر بين يديه كي يحميها من البلل، ومنهم من غرقت خيمته، وما فيها، بوابل المطر، الكبار والصغار يخوضون في البرك والمستنقعات الموحلة التي تجمّع فيها ما جرفته المياه في طريقها من أوساخٍ ونفايات، عدا الجوع الذي يعانون منه، ورحلة الرغيف في بلدٍ يعاني سكانه الأصليون من أكبر أزمةٍ حياتيةٍ يمرّون بها، حتى المؤسسات الدولية والإنسانية الداعمة للاجئين قلّصت مخصّصاتها، وحرم كثيرون من المساعدة، بشهادة عديدين ممن تجرى معهم المقابلات الميدانية. واللافت للنظر، والمؤسف في الوقت عينه، عدد الأطفال في تلك المخيمات. هي في الواقع ظاهرة تستحق الدراسة، وتستحقّ الاهتمام والضبط بأي طريقة، إنها تثير أسئلةً كثيرة والدهشة حدّ الذهول، إذ كيف لأناسٍ يعيشون في هذه الشروط اللاإنسانية، بكل قهر الحياة وجورها، أن يتكاثروا بهذه الطريقة الانفجارية؟ معظم من أجريت معهم الاستطلاعات عن الحال في واقع العاصفة كانوا يقولون إنهم يعيشون في الخيمة، ولديهم من الأطفال أعدادٌ لا يمكن تصوّرها، ثمانية، عشرة، أحدهم قال إنّ فيها 18 طفلاً، مؤكد أنهم ليسوا من أمٍّ واحدة، وما هو مصير هذا الجيل الذي يكبر في المؤقت والحرمان والبعد عن الدراسة وعن العناية الصحية وعن أبسط مقوّمات الحياة في العصر؟ بالإضافة إلى ما يسوم الآباء، ومن بعدهم أطفالهم من العنصرية التي ازدادت بسبب الوضع المستفحل للشعب اللبناني، ولا أحد يستطيع لومَهم في هذه الظروف التي صارت تباري ظروف الشعب السوري. عدا أنّ قضية اللاجئين في صميم بازارات السياسة اللبنانية المتعثّرة باستمرار.
وفي المقابل، فإنّ ما خلّفت العاصفة وراءها من خسائر فادحة في البنى التحتية، المهلهلة في الأساس، وفي الممتلكات الخاصة والعامّة، ما يثير الهلع، سيّارات مبعوجة تحت ثقل ما سقط فوقها من الأشجار أو أعمدة الكهرباء، أو غيرها من أجسام ثقيلة جعلتها العاصفة بقوتها بوزن الريشة، فخلعتها ورمتها كيفما كان، خزّانات المياه التي تعتلي الأسطح، وصار السوريون يملأونها بالسطول والغالونات، بسبب صعوبة وصول مياه الشبكة العامة إلى المنازل، فالكهرباء شبه معدومة، وضخّ المياه في الشبكة وإلى البيوت يعتمد على المضخّات التي تعمل على الكهرباء، كثير من هذه الخزانات طيّرتها العاصفة، أسقف بعض البيوت، وأسقف القرميد المستعارة. ولهذه حكاية أخرى، إذ اعتاد السوريون على التعديلات في بيوتهم، وعلى توسيعها مخالفين شروط ضابطة البناء، في ظلّ الفساد المستشري، ومعظم هذه الأسقف ليست جزءاً أساسياً من البناء، طيّرت العاصفة كثيراً منها.
الأشجار في المدينة، ومنها المعمّر الذي يشكّل ركناً أساسيّاً من ذاكرة المدينة قلعتها العاصفة من جذورها، مشاهد الدمار الفظيع التي عرضتها القنوات المحلية ومواقع التواصل مرعبة، عدا الأضرار التي لحقت بالمزروعات، وقضت على المواسم كلها، من مواسم الخضار التي ترفد السوق المحلية بما تحتاجه، إلى الأشجار المثمرة من حمضياتٍ وتفاحياتٍ وجوز وزيتون وغيرها، مع اقتلاع أشجار سروٍ كثيرة تشكّل مصدّات للرياح، وسقوطها على الأشجار التي تحميها، عدا ما أصاب الصيادين وزوارقهم في عرض البحر. لا يمكن حصر الخراب والضرر، ولا يمكن أيضاً فهم تلك السحنات التي تقابل المراقب، عندما تدور الكاميرا وتسألهم عن أحوالهم بعد هذه الخسارات، الجميع ينهون شكواهم بكلمة: الحمد لله على كلّ شيء. ذاهلين أمام الكارثة. فهل هذا قدرية أم يأس؟
ليس هناك بارقة أمل في حلّ سياسي، بل ليس الحلّ بيد السوريين إنّما مرهونٌ للخارج
هؤلاء الذين يعيشون في الداخل، لم يكونوا في أحسن حال قبل العاصفة، ولا يملكون ترف التميز عن غيرهم من السوريين في المخيمات، هم فقط يعيشون بوهم الديمومة، لكنّ الحياة الكريمة تنسلّ من تحتهم وهم ليسوا غافلين، إنّما وصلوا إلى مرحلة العيش بلا حافز، بلا طموح، بلا تخطيط، بلا أيّ مبادرة تتعدّى التفكير برغيف اليوم قبل الغد، فكيف في أوقات الكوارث، بينما حياتهم العادية تحوّلت إلى كارثةٍ ممتدّة؟ّ والأكثر جوراً وأعمق وجعاً، أنّهم يشعرون، في الأساس، بأنّهم بلا سقفٍ يحميهم، ففي الأحوال العادية، ومن دون عاصفةٍ من البديهي أن تتوقعها مديرية الأرصاد الجوية، يشعر المواطن السوري بأنّه يتيمٌ بالمطلق، لا دولة أو حكومة تدافع عنه، أو تؤمّن احتياجاته مثلما يجب أن يكون عليه العقد بينه وبينها، السوري مطلوبٌ منه القبول بظروف الحياة المتدهورة باستمرار، وعليه تسديد الفواتير للدولة، فواتير ترتفع باستمرار، من دون خدماتٍ في المقابل، يسدّد للكهرباء، ولا يراها إلّا ومضات خاطفة، يسدّد للمياه ولا يراها إلّا بالقطّارة، يسدّد الضرائب من دون دخلٍ يؤمن له سدّ الرمق، يسدّد فواتير الحرب من حياته، وحياته تتهاوى، فكيف يعيش بطمأنينة؟ وهل من الذكاء أن نتوقع منه ردًّا غير: الحمد لله على كلّ شيء؟
يبدو أنّ الأزمة ستطول، وسيطول اختناق الناس. ومع هذه الإطالة والتهاوي المريع نحو قيعان الحياة، ستطول الحقبة التالية أكثر، إذا ما بقيت هذه الأجيال التي تولد وتكبر محرومةً من فرص العيش الكريم والتعلّم والعناية الصحية، ومن أن تحتويها مدنٌ غير مأزومة كالمدن السورية اليوم، لا بد من التذكير بأنّ "إيكونوميست" التي أطلقت تقريرها السنوي عن مؤشّر الرفاهية في العالم أخيراً، جاء ترتيب العاصمة السورية دمشق لديها في آخر القائمة، فكيف بباقي المدن السورية؟