السوريون في أوروبا: هل يتحوّل المنفى إلى وطن؟
طالت السنون باللاجئين السوريين الذين فرّوا من جحيم بلادهم، وتشتتوا في أصقاع الأرض. وصل مئات آلاف منهم إلى أوروبا، وحصلوا فيها على حق اللجوء والحماية، لأسبابٍ إنسانية أو سياسية. ربما اعتقد كثير من هؤلاء أن عودتهم إلى بلادهم لن تكون بعيدة، وهذا يشمل بوجه خاص اللاجئين المبكّرين الذين لم يكن في حسبانهم أن العالم، على اختلاله، يمكن أن يتفرّج على كارثة مستمرّة بهذا الشكل، أو يمكن أن يتساهل ويستوعب طغمة ترتد على محكوميها بالطائرات والبراميل المتفجرة والسلاح الكيماوي. غير أن هذا ما حصل، وراحت سنون اللجوء تتناسل وتطرح على اللاجئين مشكلات جديدة وجدّية، مثل اللغة والعمل، ثم مشكلات الاندماج (integration) والاتساق مع معايير السلوك والحياة في المجتمع الجديد. وهذا لا يكفي من وجهة نظر اليمين المتطرّف الأوروبي الذي راح يطالب اللاجئين بالذوبان (assimilation) بما يتضمّن التخلّي عن الثقافة الأصلية للاجئ.
لنضع جانباً أسئلة مثل: ما حدود الاندماج، دع عنك "الذوبان"؟ وهل يقع هذا في مجال إرادة اللاجئ أصلاً؟ وهل جاء هؤلاء السوريون إلى أوروبا كي يندمجوا؟ ما جرى أنه طال الزمن، وبدأ لاجئون سوريون كثيرون يحققون الشروط ويحصلون على جنسية البلدان التي لجأوا إليها. وترانا نفرح ببطاقة الجنسية، كما يفرح طالب بتخرّجه من الجامعة بعد سنوات الدراسة. يحرّض هذا الواقع في الذهن أسئلة مثل: ما مصدر السعادة التي تشمل السوري، أو غيره من أمثاله، حين يحوز جنسية أو قومية (نلفت إلى أن العربية تترجم nationality بكلمة مشتقة من الجنس وليس من القومية) البلد الذي لجأ إليه؟ هل يتعلق الأمر بالجانب المادي من الموضوع، أي بالتسهيلات التي يمكن أن يحوزها بعد أن صار من مواطني الدولة الجديدة وحاملاً جواز سفرها، وقادراً بالتالي على السفر حيث يشاء من دون عوائق، بوصفه "غير سوري"؟ أم من انتسابه في هذا الفعل إلى أمةٍ جديدةٍ لها مكانة أفضل بين الأمم، وأن هذا الانتماء "الورقي" يمكن أن يرمي غلالة، مهما تكن شفافة، على شعورٍ مزمن بالدونية لدى أبناء العالم "المتخلّف" تجاه العالم المتحضر؟ أم لأنه بات قادراً على أن يورّث أبناءه انتماءً أفضل ومفتوحاً على آفاق نجاح أوسع؟ هل في هذه السعادة ظل من فرحة التميز عن أبناء جلدته الذين ظلوا في "جلدهم" القديم؟ أم أن الأمر أبسط من هذا كله، وأنه شعور سعادة غريزي بأن هناك "عائلة" جديدة تنسبه إليها، أو تقبل انتسابه إليها، وفي هذا، بحد ذاته، مصدر سعادة؟ ولكن، هل ترى الفرنسي أو الألماني سيجد مصدر فرحٍ في حصوله على الجنسية السورية؟
تجاوز حاجز البطاقة القومية لا يعني بحال تجاوز حاجز الانتماء النفسي
من زاوية أخرى، ألا تنطوي سعادة السوري بحصوله على جنسية أوروبية، على قدر من التعاسة العميقة؟ تعاسة نابعة من حقيقة أن كل الأوراق لا تستطيع أن تجعلك من "الجنس" الذي تفرح بالانتماء الجديد إليه، ليس فقط في عيون أبناء هذا "الجنس"، فأوروبا قارّة قديمة لا تمتلك مجتمعاتها قوة هضم عناصر جديدة إليها، بل أيضاً في عين ذاتك. تعاسة ناجمةٌ عن التنافر بين انتمائك العميق وانتمائك الجديد، تنافر يفرضه الواقع السياسي الذي يتخذ بعداً نفسياً، لأنه يلامس حسّ الانتماء. الجديد الذي يفرحك يتطلب منك إهمالاً أو التخلي عن شيء من ذاتك. التعاسة تنبع، إلى ذلك، من شعورٍ ثابت، لا تنفع معه الأوراق، بأنك لست من هنا. تجاوز حاجز البطاقة القومية لا يعني بحال تجاوز حاجز الانتماء النفسي.
فوق هذا، لا يمكن فصل بطاقات الجنسية التي بدأ يحوزها السوريون الذين نهضوا بثورة لتغيير البؤس السياسي في بلدهم عن الفشل في التغيير. يشبهون في ذلك من سبقهم من أصحاب القضايا. كما لو أن البطاقة نفسها التي تعطي شعوراً بالسعادة الشخصية تحمل معها تذكيراً ملازماً بالفشل العام. وقد كان تجاوز الشخصي والاندماج بالعام أساس مسعى السوريين لتغيير واقعهم السياسي.
في السجن، حين يطول بك الزمن، ويزداد بعد العالم الخارجي، ويتحوّل أكثر فأكثر إلى ذكريات، يصبح أمام المسجون مصيران أو طريقان، ليس لكي يختار بينهما، فهو ليس حرّاً في الاختيار، بل لكي يختاره أحدهما. إنهما طريقان يتسابقان على المسجون، الأول طريق العجز عن التكيف مع عالمٍ بهذا القدر من الضيق والانكماش، وهذا طريقٌ ينتهي بالسجين إلى تعثر العقل والجنون. والثاني طريق التكيّف والانكماش بقدر انكماش عالمه الجديد، وهذا ينتهي به إلى "الأمان"، أو ما اصطلح السجناء على تسميته "الاستحباس"، أي القبول النفسي بالحبس. في الغربة، لا ينكمش العالم، بل يتوسّع بالأحرى، لكنه اتساعٌ لا يشبع روح الغريب مع ذلك، تماماً كما أن وفرة سوائل الكون، سوى الماء، لا تروي العطش. والماء لروح الإنسان هو مسقط رأسه وبلده الأم. المشروبات الأخرى مهما كانت فاخرة لا تغني شيئاً عن الماء.
يبقى شعور الانتماء إلى الوطن الأم حياً في نفس الغريب مهما بلغت رفاهيته
الغربة القسرية التي لا أفق واضحاً لنهايتها، كحال السوريين اليوم، هي واقع غريب عن الإنسان غرابة السجن، مهما كان الفارق بينهما واسعاً. قد يبدو في هذا القول مفارقة، ذلك أن غربة السوريين اليوم في أوروبا، تبدو امتيازاً، وهي في الواقع كذلك، قياساً على حال السوريين في الداخل. ولكن كما تبقى الحرية حيةً في نفس السجين مهما "استحبس"، يبقى شعور الانتماء إلى الوطن الأم حياً في نفس الغريب مهما بلغت رفاهيته. في الحالين، هناك خلل من العبث تجاهله.
في نزهة في الريف الفرنسي، يقول أحد الكتّاب السوريين، وهو يحمل الجنسية الفرنسية منذ حوالي نصف قرن، لصاحبه الذي يحمل الجنسية الفرنسية أيضاً منذ زمن بعيد، وهما يقفان على مرتفع: "كم هي جميلة بلادنا"، فتبدو الجملة غريبةً على أذن هذا الأخير، ويسأل في نفسه: هل هذه حقاً بلادنا؟
إذا كان هذا حال أمثال هؤلاء، فكيف يكون حال من نهضوا بثورة، ويعلمون أن وجودهم هنا جزء من تعثّر محاولتهم، وأن بطاقة الجنسية هي بمثابة شاهد دائم على هذا التعثر؟