السودان: يا سلطة مدنية، يا ثورة أبدية

25 أكتوبر 2021
+ الخط -

يشكّل تجدّد المظاهرات في السودان، وبأعداد كبيرة توصف بأنها الأكبر في تاريخ البلاد، استمراراً لصراعٍ ناظمه الأساسي إعادة الجيش إلى دوره العسكري، بعيداً عن السياسة، ووضعه تحت إمرة سلطة مدنية، وهذه خطوةٌ أساسيةٌ باتجاه بناء نظام ديمقراطي في أي بلد، الأمر الذي يلخصه شعار "يا سلطة مدنية، يا ثورة أبدية"... على أن العداء للديمقراطية ليس فقط صنعة الجيش الذي يسعى إلى حقن نظامه الداخلي في المجتمع، وتحويله، بالتالي، إلى نظام تراتبٍ وطاعة، بل هناك أيضاً قوى مدنية لا تقل عداءً وعرقلةً للمسار الديمقراطي، على ما شهدنا في تونس، حيث عمل رئيسٌ مدنيٌّ على جرّ قوات الأمن والجيش التي حافظت على مسافةٍ تفصلها عن الصراعات السياسية في البلد إلى مواجهة مع الأحزاب "المدنية"، في مخاطرةٍ يمكن أن يدفع الرئيس نفسه ثمنها، حين تستثار شهيّة الجيش للسلطة، فالشهية تأتي مع الأكل، كما يقول المثل، والديكتاتورية تليق بعسكري أكثر مما تليق بحقوقي مدني. هذا مما يؤكد صحة قول رئيس الحكومة السودانية، عبد الله حمدوك، الذي يواجه، مع حكومته، الضغط الكبير المعادي للديمقراطية، عندما قال إن الصراع الدائر حالياً ليس بين عسكريين ومدنيين، بل بين من يؤمن بالتحول المدني الديمقراطي من المدنيين والعسكريين ومن يسعى إلى قطع الطريق أمامه من الطرفين.
تميزت الثورة السودانية، قياساً على الثورات العربية الأخرى، بأنها أولاً، توفّرت على قيادة تتكلم باسم الجمهور المنتفض، وتمون عليه، وهذا يعني أنها كانت قادرةً بالتالي على أن تترجم طاقته الثورية إلى مكاسب سياسية، وثانياً أن هذه القيادة أخذت في الحسبان توازنات القوى وحساسيات الصراع، ودخلت في تسوياتٍ معقولةٍ يمكن تطويرها ودفعها، بالنضال المستمر، نحو مزيدٍ من الانفتاح على الشعب، أو مزيدٍ من تحرير العلاقة بين السلطة والشعب، وهو ما يعني إعادة العسكر إلى ثكناتهم، وجعلهم تحت سيطرة مدنية. في هذا، تجاوزت الثورة في السودان مطبّات سياسية، من أهمها الدخول في صراع كسر عظم، لا تتوفر عناصر حسمه، أدّت إلى إغراق الثورة بالدم أو إلى تشتتها وضياع ريحها.

انقلب الجيش على الرئيس المنتهية صلاحيته، بزعم مناصرة الثورة، فبرزت قوتان: قوة مدنية وأخرى عسكرية

بدوره، لم يتمكّن نظام عمر البشير من الحفاظ على حشد الجيش معه، في قرار قمع الاحتجاجات بأي ثمن. وقد ساهمت، في الوصول إلى هذه النتيجة سعة نطاق الاحتجاجات وانتظامها المشترك على خط سياسي عام، مع الاحتراق السياسي للبشير دولياً (مطلوب لمحكمة الجنايات الدولية منذ 2009 بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية خلال النزاع المسلح الذي اندلع في إقليم دارفور في 2003)، ما جعل الجيش أقل تمسّكاً بالبشير، مع الطموح السياسي لزعيم "قوات الدعم السريع"، محمد حمدان دقلو (حميدتي) الذي انقلب على صاحبه، بعد أن كان ذراعه الأيمن في ارتكاب المجازر والجرائم في حرب دارفور. هكذا انقلب الجيش على الرئيس المنتهية صلاحيته، بزعم مناصرة الثورة. المحصلة بروز قوتين: قوة مدنية، هي مادة الثورة الأساسية، تؤطّرها بشكل أساسي "قوى الحرية والتغيير" و"تجمع المهنين السودانيين"، وأخرى عسكرية، انقلبت على الرئيس، وشكّلت مجلساً عسكرياً غايته الحفاظ على واحدٍ من الأمراض العربية المزمنة، الحضور السياسي للجيش في إدارة المجتمع.
انتهى تنازع القوتين المذكورتين في أغسطس/ آب 2019، بعد المجزرة التي ارتكبها المجلس العسكري بحق الاعتصام أمام مقر القيادة العامة للقوات المسلحة في الخرطوم، قبل حوالي شهرين من ذلك (يونيو/ حزيران 2019)، إلى الاتفاق على وثيقة دستورية لتنظيم عملية الانتقال الديمقراطي، وفيها تقاسمٌ للسلطة بين المجلس العسكري والقوى المدنية. والوثيقة الدستورية هي ثمرة كفاح متواصل ضد سيطرة الجيش السوداني الذي ما كان ليقبل بالوثيقة، لولا الحضور الشعبي والجاهزية الدائمة للحضور.

محاولة الانقلاب في 21 سبتمبر في السودان لم تكن سوى تجربة لجسّ نبض الشارع

المظاهرات المليونية في السودان اليوم هي القوة الديمقراطية المدنية في سعيها إلى فرض تنفيذ الوثيقة الدستورية التي يسعى الجيش إلى التنصّل منها، مع اقتراب موعد تسليم رئاسة المجلس السيادي للمدنيين في إبريل/ نيسان 2022. وهذا درسٌ آخر تقدّمه الثورة السودانية، وفيه فائدة للسوريين اليوم، وهو أن الوثائق والعهود والدساتير ليست إنجازاً بحد ذاتها، مهما بدت معقولةً وعادلة، فلا بد من فرض احترام بنودها والتقيد بها، ولا قوة لدى الثورة غير الحضور الشعبي في الميدان، في حين أن الجيش، بحكم تكوينه، يمتلك دائماً قوته الجاهزة للانقضاض على الحقوق "الورقية" أو السائبة، أي الحقوق التي لا تجد من يدافع عنها.
محاولة الانقلاب التي جرت في 21 الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول) في السودان لم تكن سوى تجربة لجسّ نبض الشارع، لمعرفة جاهزيته في الدفاع عن السلطة المدنية. على هذا، لم يأت فشل الانقلاب المذكور من وقوف الجيش ضد محاولة الانقلاب، لقد كان من البديهي أن تفشل تلك المحاولة، لأن نجاحها كان سيعني إزاحة سيدي المجلس العسكري، عبد الفتاح البرهان وحميدتي عن المشهد. لكن الغرض من جسّ النبض ذاك قياس مدى قبول الشارع السوداني انقلاب المجلس العسكري (البرهان، دقلو) على السلطة المدنية. أي أن الخطر الفعلي على الإنجاز الديمقراطي في السودان ليس في انقلاب الجيش على المجلس العسكري، بل في انقلاب المجلس العسكري على الحكومة المدنية، سيما مع تكرار قادة المجلس القول إن المدنيين هم السبب في الأزمة الراهنة.

خطر انقلاب الجيش على الوثيقة الدستورية يبقى قائماً، ويعزّزه تشتت القوى الديمقراطية وتباين مواقفها في الصراع الجاري

يبدو أن عسكر السودان لمسوا أن سبيل المسار الانقلابي ليس سالكاً، سواء بسبب المواقف الخارجية، أكان موقف الاتحاد الأفريقي أو الموقف الأميركي، أو بسبب الجاهزية الشعبية، فاختاروا "السياسة"، أولاً بالرهان على تفتت القوى المدنية، وهناك علامات لهذا التفكّك، مثل انشقاق قوى عن المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير، وموقف الحزب الشيوعي السوداني. ثانياً من خلال ترتيب مواكب موالية للجيش، تطالب بتوسيع الشراكة، بغرض إدخال قوى أخرى مساندة للجيش، وإشاعة حالة شارع ضد شارع. ثالثاً، من خلال إجراءات خشنة، مثل تقييد حركة بعض الوزراء وبعض مسؤولي "لجنة إزالة التمكين ومحاربة الفساد" التي تهدف إلى تفكيك النظام القديم، إضافة إلى عرقلة عمل اللجنة، بإصدار تعليمات بانسحاب القوات العسكرية التي تقوم بمهمة حراسة العقارات والأصول المستردّة من عناصر النظام القديم.
يشير هذا كله إلى أن خطر انقلاب الجيش على الوثيقة الدستورية يبقى قائماً، ويعزّزه تشتت القوى الديمقراطية وتباين مواقفها في الصراع الجاري، وهو ما قد يكلفها غالياً، ويعيد دورة الصراع إلى نقطة البداية.

F5BC3D9E-B579-43CA-A6C4-777543D6715D
راتب شعبو

طبيب وكاتب سوري من مواليد 1963. قضى 16 عامًا متّصلة في السجون السوريّة. صدر له كتاب "دنيا الدين الإسلامي الأوّلَ" (دراسة) و"ماذا وراء هذه الجدران" (رواية)، وله مساهمات في الترجمة عن الإنكليزيّة.