السنوار بين القسّام وغيفارا
فور الإعلان عن استشهاد يحيى السنوار، قائد المقاومة الفلسطينية، محارباً ممسكاً سلاحه، ضجّت وسائل التواصل الاجتماعي بمنشورات تستدعي اسم تشي غيفارا، بدا معها وكأنّنا بصدد استدعاء نموذجٍ معياريٍّ للمناضل كما ينبغي أن يكون، وبما يتضمّن تقييماً لرحلة السنوار البطولية بمقياس غيفارا.
لا يستطيع أحدٌ أن يجادل في قيمة الطبيب الأرجنتيني المُرتحِل بثورته إلى ربوع أميركا الجنوبية في خمسينيّات القرن الماضي، ولا ينكر أحدٌ أنّه تحوّل أيقونةَ نضالٍ تاريخيةٍ ضدّ الإمبريالية والرأسمالية، غير أنّ استدعاء حكايته عند تناول أسطورة كفاح السنوار من أجل تحرير وطنه يحمل شيئاً من التعسّف في الإحالة والمقارنة، بل قد يحمل إجحافاً بقيمة (وحجم) أسطورة نضال عربية، هي بذاتها النموذج الذي يعلو إغراء البحث عن نموذج مُستورَد للقياس عليه، فضلًا عن أن التجربتَين تختلفان في المنطلقات والمآلات، وبالتأكيد في الظروف الموضوعية في الحالتَين.
ومع الامتنان لما قدّمه تشي غيفارا من دروس في النضال الثوري والانتماء لقيم أخلاقية وإنسانية عالمية، ومع الإقرار بأنّه صار أيقونةً عابرةً للأجيال الباحثة عن الانعتاق من الاستبداد والظلم، إلّا أنّ المقارنة بتجربة السنوار مجحفة من عدّة وجوه، لعلّ أهمّها أن غيفارا ظهر في عالم ثنائي القطبية، فكان إسناد بالسلاح والمال من المعسكر الشرقي، وحفاوة إعلامية هائلة، وحماية تمكّنه من الانتقال والسفر، ويستقبله رؤساء وزعماء، ويُسمَح بالتظاهر والهتاف باسمه في دول عدّة، من دون أن يكون ذلك تهمةً تقود صاحبها إلى السجن، أو تضعه في لوائح الإرهاب، وتحشُره في تصنيفات التطرّف، وذلك على عكس حالة الشهيد يحيى السنوار، الذي حاربه الغرب والشرق، واحتشدت أساطيل القوى الإمبريالية الكبرى، جوّاً وبحراً وبرّاً لمحاربة مشروعه الوطني في مقاومة أقذر أشكال الاحتلال، وأبشع أنواع الاستعمار، ونزع الأوغاد عنه وعن شعبه الحالم بالتحرير صفة الإنسانية، واعتبرهم السفلة العنصريون كائناتٍ لا تستحقّ الحياة. والأقسى من ذلك كلّه أنّه وجد خذلاناً من أقرب الناس إليه، أشقائه، أو من يفترض أنّهم أشقاؤه، حاربوه وتواطأوا ضدّه، ووقفوا يتفرّجون على عدوّه وعدوّهم يقتل نحو خمسين ألفاً من شعبه، بل ويتعاون بعضهم مع هذا العدو سرّاً، معلوماتياً واقتصادياً، لتحقيق هدف مشترك بينهما، اجتثاث روح المقاومة وفكرة الثورة من هذه البقعة الملعونة من الأرض، التي تسمّى الشرق الأوسط.
كان بمقدور غيفارا أن يتنقل بين قارّات العالم بالطائرة، يستقبله رؤساء وتعقد له ندوات، من دون أن يكون متهماً بالإرهاب، أما السنوار فقد أمضى عمره كلّه سجيناً في زنازين المحتلّ، أو محاربا له في الأرض، كامناً في نفق تحت الأرض يدير أعظم ثورة ضدّ أحطّ مخلّفات الإمبريالية والاستعمار القديم. لم يركب السنوار طائرةً في حياته كلّها، ولم يغادر أرضه، حتّى استشهد فوقها محارباً حتى آخر طلقة، ومقاتلا بعصاه وقبضة يده، التي بقيت سليمةً، ليدوّن أسطورة كفاح وطني مذهلة، فيما لم تجرؤ عاصمة عربية واحدة على كتابة نعي له، أو تسمح للجماهير بتوديعه في جنازة رمزية، أو تعقد ندوة للحديث عنه، أو أمسية يسمح فيها للشعراء بكتابة "السنوار مات".
مرّة أخرى، لا أحد ينكر كفاح غيفارا، لكن استخدامه نموذجاً لتقييم السنوار فيه ظلم لشهيد فلسطين، وهنا ثمّة سؤل ضروري: المثقف العربي الذي يقيّم تجربة السنوار بمعيار تجربة غيفارا، هل يملك الشجاعة والإنصاف لتقييم تجربة غيفارا بمعيار تجربة عزّ الدين القسّام؟
الشاهد أن حكاية كفاح غيفارا في دول قارّته، أميركا الجنوبية، تبدو في كثير من جوانبها تكراراً لتجربة المجاهد الشهيد عزّ الدين القسّام في دول أمّته العربية، فكما أن غيفارا كان مناضلاً أممياً، فإنّ القسّام كذلك مناضلاً أممياً، غير أنّ عزّ القسّام سبق غيفارا بربع قرن على الأقلّ.
القسّام عربي سوري، كان يحلم باستقلال الأمّتَين العربية والإسلامية في مواجهة الاحتلال، وغيفارا لاتيني أرجنتيني كان يحلم بوحدة أميركا الجنوبية في مواجهة الرأسمالية والإمبريالية. قاوم القسّام الاستعمار الإيطالي في ليبيا والاستعمار الفرنسي في سورية، وحضر كفاح الثورة العرابية ضدّ الاستعمار البريطاني في مصر، ثم حين حاصره الفرنسيون وقرّروا إعدامه، سافر إلى فلسطين ليقود الكفاح ضدّ الاحتلال البريطاني وغزو عصابات الاستعمار الصهيوني، حتّى استشهد في 1935، ليكون استشهاده وقوداً لإشعال الثورة الفلسطينية الكُبرى (1936- 1939)، ثمّ ليصبح ملهماً للمقاومة الفلسطينية منذئذ جيلاً بعد جيل.
وكذلك فعل غيفارا بعده بربع قرن، حينما انتقل من الأرجنتين إلى كوبا ثمّ بوليفيا، حيث قتل وهو يحارب ضدّ الإمبريالية الأميركية، مدعوماً سياسياً وإعلامياً وتسليحياً من المعسكر الاشتراكي، الذي كان قطباً معادلاً ومساوياً في القوة للمعسكر الأميركي الغربي.
هناك عشرات الكتب صدرت عن كفاح غيفارا، وجرى تداولها في الأقطار العربية، بينما هذه الأقطار نفسها لا تتسامح مع الاحتفاء ببطولات القسّام، ومن بعده السنوار، بل وتجرّم ذلك.
في النهاية، يبقى أنّنا لسنا مضطرّين لاستيراد نموذجٍ للكفاح الوطني، حين نتحدّث عن أبطالنا التاريخيين، الذين سيأتي زمان يصبح فيه تدريس ملاحمهم البطولية، ليس في فلسطين فقط، بل في الجزائر ومصر وليبيا والشام، أعظم ما تُربِّي عليه الأمم أجيالها.