السلطة الفلسطينية عاجزة أم متواطئة؟

18 نوفمبر 2023
+ الخط -

تفرض تطوّرات الساحة الفلسطينية سؤالًا دوريًا بشأن دور ما تعرف بالسلطة الوطنية الفلسطينية، إذ تدور النقاشات عادةً بين وصفها بالعاجزة، نتيجة طبيعتها التي فرضها اتّفاق أوسلو أولاً، وبحكم ارتباط مصالح قيادتها مع استمرار الأوضاع الراهنة في فلسطين، وبين من يتهم السلطة بالتواطؤ المباشر مع الاحتلال. والتواطؤ هنا تعبيرٌ مجمّلٌ ومخففٌ بديلٌ عن اتهامها بالخيانة العظمى، نظرًا إلى ثقل التعبير الأخير، وصعوبة تداوله إعلاميًا، ليس إلّا.

بناء عليه، لا بدّ من التمعن في دور السلطة الراهن، خصوصًا بعد عملية طوفان الأقصى، وبعد العدوان الصهيوني الهمجي والشرس على كلّ ما هو فلسطيني، أرضًا وشعبًا، في الأراضي المحتلة عام 1948، وفي الضفّة الغربية، والقدس ضمنيًا، وفي قطاع غزّة المحاصر منذ أكثر من 17 عامًا. إذ انحصر دور السلطة في هذه المرحلة؛ كما جرت العادة، في: تصريحاتٍ سياسيةٍ تدين ممارسات الاحتلال، وتحمّله مسؤولية تدهور الأوضاع الأمنية في الأراضي المحتلة، وتحديدًا في الضفّة الغربية، إلى جانب دعوةٍ متكررةٍ لعقد مؤتمرٍ دوليٍ لحلّ القضية الفلسطينية، وفق رؤية الدولتين، وآخرها طلب الحماية الدولية لشعب فلسطين وأرضها، ويمكن إضافة طلب إدخال المساعدات العاجلة إلى قطاع غزّة.

يمثّل ذلك مجمل دور السلطة راهنًا وماضيًا، ما دفع معظم الفلسطينيين إلى وصفها بالسلطة العاجزة عن القيام بأيّ دورٍ حقيقيٍ وملموسٍ. ولكن هل هذا الوصف صحيحٌ؟ الجزم بافتقاد السلطة الناتجة من اتّفاق أوسلو المشؤوم للقدرة على المبادرةٍ إلى فعلٍ حقيقيٍ هو تبرئةٌ غير مقصودةٍ لها، إذ يمكن للسلطة أن تلعب أدوارًا حقيقيةً، بل ومقاومةً إن أرادت، فعلى صعيد النضال السياسي؛ يمكن للسلطة أن تنتهج استراتيجيةً سياسيةً مقاومةً واضحة المعالم، عبر ثلاثة مساراتٍ متوازيةٍ: أولها رفض تقسيم الأراضي الفلسطينية جغرافيًا، وهو ما يعني رفض الفصل بين عدوان الاحتلال على غزّة وعلى القدس والضفّة الغربية، بل وحتّى على فلسطينيي الداخل المحتل، ما يعنى أنّ جرائم الاحتلال المتواصلة على المدنيين الفلسطينيين منذ بداياته، سيّما التي نفذتها حكومته الراهنة هي إرهابٌ موصوفٌ ومستمرٌّ على مجمل شعب فلسطين، بغض النظر عن مكان وقعها، وهو ما يقود إلى رفض وتفنيد محاولات الاحتلال جعل السابع من أكتوبر/ تشرين الأول نقطة ابتداء تمحو ما قبلها، وتشرع ما بعدها.

المسار الثاني هو قطع العلاقات مع جميع القوى الدولية والإقليمية المشاركة في جرائم الاحتلال، عبر تبريرها، أو حمايته، أو تمويله، أو عبر تسليح الاحتلال ومستوطنيه، وهو ما يعني قطع مجمل العلاقات مع أميركا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا. وهنا علينا التأكيد على عدم جدوى اللقاءات السياسية التي عقدتها السلطة مع أي من ممثلي تلك الدول، بل على العكس كانت معظم؛ إن لم نقل كلّ، تلك اللقاءات بمثابة إداناتٍ خفيةٍ لحقّ الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال، وأحيانًا لحقّه في الحياة، والتحرّر وتقرير المصير وإقامة دولته الفلسطينية المستقلة. بناء عليه، يمثل قطع العلاقات الفوري أداةً سياسيةً غير ضارةٍ، إن لم نقل إنّها نافعةٌ، وينحصر ضررها في الجانب الاقتصادي، بحكم اعتماد السلطة على أموال المانحين الدوليين، وخصوصًا أميركا، وهو ثمنٌ بسيطٌ قياسًا لحجم الجرائم الصهيونية المرتكبة بحقّ الكلّ الفلسطيني، فضلاً عن قدرة السلطة والمجتمع الفلسطيني على تجاوز تلك الآثار السلبية بوسائل عديدةٍ يمكن الخوض فيها لاحقًا.

تملك السلطة أدواتٍ يمكن أن تستخدمها إن أرادت، لكنها تمتنع عن استخدام أيٍّ منها

ثالث المسارات قيادة السلطة الحراك الدولي المناصر للحقوق الفلسطينية، والقيادة هنا تعني الضغط والتأثير والتوجيه، إذ على السلطة العمل على صناعة حلفٍ دوليٍ عابر للقارّات موحّدٍ وحاسمٍ بكلّ ما يتعلق بالشأن الفلسطيني، يقطع العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية مع الاحتلال، ولما لا مع داعميه أيضًا، إلى جانب سعيه إلى كسر حصار شعب فلسطين عمليًا في كلٍّ من قطاع غزّة والضفّة الغربية وفي الداخل المحتل، عبر آلياتٍ عمليةٍ ميدانيةٍ ذات طابعٍ دوليٍ، مثل قوافل مساعداتٍ إنسانيةٍ برّيةٍ وبحريةٍ وجويةٍ فدائية الطابع، أي لا تنتظر موافقة الاحتلال، ولا تنسق معه أصلاً، في محاكاةٍ عمليةٍ لما تسميه أميركا بالجسر الجوي مع الاحتلال، وتجدر الإشارة هنا إلى رغبة آلاف المتطوّعين الفلسطينيين والإقليميين والدوليين في المشاركة في هذا الجسر البري والجوي والبحري، رغم خطر قصفه صهيونيًا.

على المستوى الميداني؛ تملك السلطة أيضًا القدرة على أداء دورٍ مقاومٍ حقيقيٍ في مناطق وجودها، بل وحتّى خارجها، ولهذا الدور مستويان، سلمي وعنيف، يتمثل الأول في تسيير السلطة قوافل وجسرا بشريا فلسطينيا لكسر الحصار، لكن تجب الإشارة هنا إلى أن تسيير ذلك يتطلّب مشاركة السلطة قيادتها ميدانيًا، عبر المشاركة أعلى المستويات القيادية السلطوية، من رئيسها؛ الذي لا يدع مناسبةً إلّا ويؤكّد فيها على دعمه المقاومة السلمية، إلى حكومتها، مرورًا بمختلف مستوياتها القيادية السياسية والأمنية والاقتصادية.

أما المستوى العنيف؛ الذي تتجنبه السلطة كثيرًا فيتمثّل في إعلانها رفع الجهوزية الأمنية، ومطالبة الأجهزة الأمنية الاستعداد للتصدّي لإرهاب مستوطني الاحتلال وجيشه، في كلّ أماكن وجودها، والعمل على كسر تقسيم الضفّة الغربية إلى معازل وكانتونات منفصلةٍ. وهنا يجب التذكير بتصريح رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، قبل بضعة أيّامٍ عن رفضه تسلم سلطة رام الله زمام السلطة في قطاع غزّة، في حال نجاح الاحتلال في إقصاء حركة حماس عن قطاع غزّة والقضاء عليها، وذلك على الرغم من تصريح السلطة إنّها مستعدةٌ لتسلم مسؤولية قطاع غزّة في إطار حلٍّ سياسيٍ شاملٍ. مع العلم أنّ تصريح السلطة هذا، في الوقت الراهن، يمثل خطأً كبيرًا جدًا، إذ كان عليها التأكيد على رفض العدوان الصهيوني، وعلى رفض التصريحات الصهيونية والدولية التي تتناول هوية السلطة وطبيعتها في قطاع غزّة، وعلى أنّ الشعب الفلسطيني هو صاحب الحقّ الوحيد في اختيار سلطته وحكومته على كامل الأراضي الفلسطينية، ومنها قطاع غزّة، من دون أيّ إضافةٍ.

تحرير فلسطين يتناقض كليًّا مع هوية هذه السلطة، ومع دورها الوظيفي الأمني

أخيرًا وليس آخرًا؛ على السلطة أن تلعب دورًا قياديًا على المستوى القانوني الساعي إلى محاكمة جميع قادة الاحتلال السياسيين والعسكريين والأمنيين، إلى جانب إعلامييه وقادته الاجتماعيين الذين دعوا جيش الاحتلال إلى محو غزّة، وقتل الفلسطينيين، وتهجيرهم قسرًا، فضلاً عن محاكمة داعمي الاحتلال عسكريًا وسياسيًا وإعلاميًا واقتصاديًا، وهو ما يشمل دولًا كبرى، في مقدمتها أميركا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، ومؤسّسات إعلاميةٌ ضخمة مثل CNN و الـ BBC، إلى جانب علاماتٍ تجاريةٍ عالميةٍ مثل ماكدونالدز وستاربكس، إلى جانب مصانع الأسلحة والمعدات الثقيلة، التي يستخدمها منتجاتها جيش الاحتلال، وهو ما يشمل دعوة دول العالم إلى تمويل هذه المحاكمات في كلّ مكانٍ متاحٍ، وبمشاركةٍ واسعةٍ من كلّ الحقوقيين والمحامين حول العالم، من المعنيين بهذه القضية العادلة والإنسانية.

من ذلك كله؛ تملك السلطة أدواتٍ يمكن أن تستخدمها إن أرادت، لكنها تمتنع عن استخدام أيٍّ منها، وهو ما يجعلها متواطئةً؛ بالحدّ الأدنى، مع الاحتلال وداعميه، كما ينفي عنها صفة العاجزة. كما يؤكّد مجددًا على أنّ تحرير فلسطين يتناقض كليًّا مع هوية هذه السلطة، ومع دورها الوظيفي الأمني.