07 نوفمبر 2024
السلحفاة إصلاح والأرنب ثورة
أحمد عمر
كائن يظنُّ أن أصله طير، من برج الميزان حسب التقديرات وطلاسم الكفّ ووحل الفنجان.. في بكرة الصبا أوعشية الشباب، انتبه إلى أنّ كفة الميزان مثقوبة، وأنّ فريق شطرنج الحكومة "أصحاب فيل"، وأنّ فريق الشعب أعزل، ولم يكن لديه سوى القلم الذي به أقسم" فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا..."
تعبت من محاولة معرفة نتائج التفاعل بين الدين والسياسة في مخبر الكتابة، فقرّرت الجري الصباحي. الحركة بركة، وتساعد على إدارة نواعير الأفكار. عادةً أجري في الحادية عشرة، مع صوت قطار نهري، ينفخ لي في بوق الرياضة.
لبست خفي حُنين للرياضة والمسافات القصيرة، واكتشفت لاحقاً أني لبست فردتين مختلفتين في المذهب، ومتوافقتين في القياس، فردة من دين الصيف، وأخرى شتائية. وهذا، أي الجري بخفين متشاكسين، من بطر العيش في المنفى السعيد الذي لم أكن أنعم به في حضن الوطن.
في الوطن، لم أكن أجري أصلاً، فلا شوارع للجري، ولا بواخر تمخر في لجّة الصباح. سكون المقابر.
جريت هذه المرة بعكس اتجاه النهر، فهو يسبقني دوماً. جريت جري السلحفاة، مع أن الإنسان خلق من عجل. استوقفتني صبيتان ألمانيتان ومعهما بوق "ميكروفون"، وجهاز تسجيل، واستأذنتاني في إجراء استبيانٍ، فسمحت لهما، بعد أن أخبرتهما أني لا أعرف من الألمانية أكثر مما يعرفه طفلٌ، في عامه الثاني، من لغة أمه التي أرضعته حولين كاملين.
قالت إحداهما إنهما لا تريدان سوى إجاباتٍ صافية، لا جهد فيها، فقط أجوبة، بنعم أو لا. ولم أكن قد أجريت في حياتي، وقد نيفت عن الخمسين حولاً، استبياناً واحداً، سوى التي تجرى في أقبية الأمن بالإكراه.
كان النظام الحاكم، بعين التجسّس والحسد، يعرفنا كما يعرف المرء كفّه. مرةً واحدة، فوجئت، وكنت في زيارة للشام، وجورج بوش الصغير، قد هدّد باجتياح سورية، أسوةً باجتياحه العراق، وقد انفتحت شهيته فتحاً مبيناً، بمجموعةٍ من الشباب، ومعهم كاميرا، تستوقفني، وتسألني عن إمكانية إجراء مقابلة، وسؤال عن رأيي في الغزو الأميركي، فوجئت، وسألتهم عن اسم القناة، وكانت قناةً لم أسمع بها من قبل، فأدركت، بذكائي غير المعهود، أنهم من الأعين الحاسدة، والساهرة، واعتذرت، وقبلوا - لله درّهم -اعتذاري، ونجوت من المصيدة.
صبيتان في أول المرحلة التكعيبية، وهي مدرسة في الرسم والبلوغ، بدتا مرتبكتين، ويبدو أني كنت الضحية الأولى، هما كاعبان، وأنا لا أزال في مرحلة يحيى بن محمود الواسطي، صاحب مدرسة بغداد في الرسم، مدرسة المنظور الواحد.. سألت الصبية التي أسميتها ليلى بنت المهلهل، لهلهلةٍ في ثيابها، كان كلب الحداثة قد نهش سروالها نهشاً، فمزّقه تمزيقاً، عمّا إذا كنت سأرغب في تحويل ديني من الإسلام إلى المسيحية، فأجبت قائلاً: وأيم الحق، ورب الكعبة، والذي ذرا النسمة، وفلقَ الحب والنوى، إني أعتزّ بديني، ولو وضعوا زحل في يميني، وعطارد في يساري ما بدّلته، أو أهلك دونه، لمَ أحوّله، وأنا أؤمن بالمسيح، عبد الله ورسوله وروحه وكلمته، ألقاها إلى مريم العذراء البتول.. وكدت أخطب فيهما خطبةً، مثل قسّ بن ساعدة الأيادي، لكنهما اكتفتا، وارتوتا من الجواب.
وكان السؤال الثاني: ما رأيك بالدين المسيحي؟ فقلت: القرآن، كتابنا المقدس، يسمّي النصارى، أهل الكتاب، وهم أقرب مودة للذين آمنوا. قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ.. وكدت أفتح ذراعي لهما.
وكان السؤال الثالث: أتقبل بالزواج من ألمانية؟ فشقَّ زورق ابتسامة، بحيرة وجهي الراكدة، لهذا الاحتمال زلفى وملقاً، وقلت إني أرغب كثيراً، بل ومستعد الآن، وليس غداً، أن أتزوج إحداكما، بل كليكما معاً، والله إنه ليوم المنى، أن أتزوج ألمانيةً، أيتها الغيداوان الأملودان.
المتجرّدة والمهلهلة، اكتفتا، وبدتا مذهولتين، سجلتا الحديث، ومضيتا، متعثرتين بالأجوبة، وكنت خائفاً من أن تسمع زوجتي صوتي، فهي مدمنةٌ على الإذاعة لتعلم الألمانية، ومدرّبة على تقصّي حقائق الخيال، والأكاذيب الحقيقية، وشمِّ آثار السحابة الماطرة، وستعرف صوتي. تابعت جري السلحفاة من بأس الشحوم الثلاثية، لا من نعمة الأناة، ثم أسرعت أسابق النهر إلى مجمع البحرين. يقول محمد الماغوط: السلحفاة لن تدخل الجنة، فالجنة للعدّائين وراكبي السيارات، لكنّ الحكايات كلها تقول إنَّ السلاحف تكسب الفردوس بصبرها.
السلحفاة هي الزمن، والأرنب هو الرغبة.
الصبر مرٌّ في الفم، عسلٌ في معدة المصير.
لبست خفي حُنين للرياضة والمسافات القصيرة، واكتشفت لاحقاً أني لبست فردتين مختلفتين في المذهب، ومتوافقتين في القياس، فردة من دين الصيف، وأخرى شتائية. وهذا، أي الجري بخفين متشاكسين، من بطر العيش في المنفى السعيد الذي لم أكن أنعم به في حضن الوطن.
في الوطن، لم أكن أجري أصلاً، فلا شوارع للجري، ولا بواخر تمخر في لجّة الصباح. سكون المقابر.
جريت هذه المرة بعكس اتجاه النهر، فهو يسبقني دوماً. جريت جري السلحفاة، مع أن الإنسان خلق من عجل. استوقفتني صبيتان ألمانيتان ومعهما بوق "ميكروفون"، وجهاز تسجيل، واستأذنتاني في إجراء استبيانٍ، فسمحت لهما، بعد أن أخبرتهما أني لا أعرف من الألمانية أكثر مما يعرفه طفلٌ، في عامه الثاني، من لغة أمه التي أرضعته حولين كاملين.
قالت إحداهما إنهما لا تريدان سوى إجاباتٍ صافية، لا جهد فيها، فقط أجوبة، بنعم أو لا. ولم أكن قد أجريت في حياتي، وقد نيفت عن الخمسين حولاً، استبياناً واحداً، سوى التي تجرى في أقبية الأمن بالإكراه.
كان النظام الحاكم، بعين التجسّس والحسد، يعرفنا كما يعرف المرء كفّه. مرةً واحدة، فوجئت، وكنت في زيارة للشام، وجورج بوش الصغير، قد هدّد باجتياح سورية، أسوةً باجتياحه العراق، وقد انفتحت شهيته فتحاً مبيناً، بمجموعةٍ من الشباب، ومعهم كاميرا، تستوقفني، وتسألني عن إمكانية إجراء مقابلة، وسؤال عن رأيي في الغزو الأميركي، فوجئت، وسألتهم عن اسم القناة، وكانت قناةً لم أسمع بها من قبل، فأدركت، بذكائي غير المعهود، أنهم من الأعين الحاسدة، والساهرة، واعتذرت، وقبلوا - لله درّهم -اعتذاري، ونجوت من المصيدة.
صبيتان في أول المرحلة التكعيبية، وهي مدرسة في الرسم والبلوغ، بدتا مرتبكتين، ويبدو أني كنت الضحية الأولى، هما كاعبان، وأنا لا أزال في مرحلة يحيى بن محمود الواسطي، صاحب مدرسة بغداد في الرسم، مدرسة المنظور الواحد.. سألت الصبية التي أسميتها ليلى بنت المهلهل، لهلهلةٍ في ثيابها، كان كلب الحداثة قد نهش سروالها نهشاً، فمزّقه تمزيقاً، عمّا إذا كنت سأرغب في تحويل ديني من الإسلام إلى المسيحية، فأجبت قائلاً: وأيم الحق، ورب الكعبة، والذي ذرا النسمة، وفلقَ الحب والنوى، إني أعتزّ بديني، ولو وضعوا زحل في يميني، وعطارد في يساري ما بدّلته، أو أهلك دونه، لمَ أحوّله، وأنا أؤمن بالمسيح، عبد الله ورسوله وروحه وكلمته، ألقاها إلى مريم العذراء البتول.. وكدت أخطب فيهما خطبةً، مثل قسّ بن ساعدة الأيادي، لكنهما اكتفتا، وارتوتا من الجواب.
وكان السؤال الثاني: ما رأيك بالدين المسيحي؟ فقلت: القرآن، كتابنا المقدس، يسمّي النصارى، أهل الكتاب، وهم أقرب مودة للذين آمنوا. قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ.. وكدت أفتح ذراعي لهما.
وكان السؤال الثالث: أتقبل بالزواج من ألمانية؟ فشقَّ زورق ابتسامة، بحيرة وجهي الراكدة، لهذا الاحتمال زلفى وملقاً، وقلت إني أرغب كثيراً، بل ومستعد الآن، وليس غداً، أن أتزوج إحداكما، بل كليكما معاً، والله إنه ليوم المنى، أن أتزوج ألمانيةً، أيتها الغيداوان الأملودان.
المتجرّدة والمهلهلة، اكتفتا، وبدتا مذهولتين، سجلتا الحديث، ومضيتا، متعثرتين بالأجوبة، وكنت خائفاً من أن تسمع زوجتي صوتي، فهي مدمنةٌ على الإذاعة لتعلم الألمانية، ومدرّبة على تقصّي حقائق الخيال، والأكاذيب الحقيقية، وشمِّ آثار السحابة الماطرة، وستعرف صوتي. تابعت جري السلحفاة من بأس الشحوم الثلاثية، لا من نعمة الأناة، ثم أسرعت أسابق النهر إلى مجمع البحرين. يقول محمد الماغوط: السلحفاة لن تدخل الجنة، فالجنة للعدّائين وراكبي السيارات، لكنّ الحكايات كلها تقول إنَّ السلاحف تكسب الفردوس بصبرها.
السلحفاة هي الزمن، والأرنب هو الرغبة.
الصبر مرٌّ في الفم، عسلٌ في معدة المصير.
دلالات
أحمد عمر
كائن يظنُّ أن أصله طير، من برج الميزان حسب التقديرات وطلاسم الكفّ ووحل الفنجان.. في بكرة الصبا أوعشية الشباب، انتبه إلى أنّ كفة الميزان مثقوبة، وأنّ فريق شطرنج الحكومة "أصحاب فيل"، وأنّ فريق الشعب أعزل، ولم يكن لديه سوى القلم الذي به أقسم" فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا..."
أحمد عمر
مقالات أخرى
24 أكتوبر 2024
10 أكتوبر 2024
26 سبتمبر 2024