الزلازل ... معركةٌ مفتوحةٌ مع الطبيعة
أعاد الزلزال الذي ضرب تركيا وسورية بعض الأسئلة التي واكبت التاريخ الاجتماعي للزلازل، والكوارث الطبيعية بشكل عام، إلى دائرة النقاش، وإنْ ضمن سياقات العصر الذي نعيشه.
شهد تاريخ البشرية زلازل مدمّرة كثيرة، أبرزها الذي ضرب مدينة لشبونة صباح فاتح نوفمبر/ تشرين الثاني 1755. ويعتبره متخصّصون من أكثر الزلازل فتكا في التاريخ، فقد كانت آثاره تراجيديةً بكل المقاييس، إذ دمّر معظم مباني العاصمة البرتغالية ومعالمها وأحالها إلى أكوام من الحطام، وخلّف عشرات الآلاف من القتلى والجرحى والمشرّدين. كما وصلت ارتداداته القوية إلى المدن المغربية المطلّة على المحيط الأطلسي ومدن في أوروبا.
كانت لهذا الزلزال تداعياتٌ سياسيةٌ واجتماعية وفكرية عميقة؛ فسياسيا، تسبّب في تعثر المشروع الاستعماري البرتغالي وانكفائه إبّان القرن الثامن عشر. واجتماعيا، كان حافزا لبروز ''نزعة عقلانية''، من خلال قيام الدولة البرتغالية بإصلاحات اجتماعية واقتصادية وإدارية واسعة. أما فكريا، فقد خلف تصدّعات روحية وفلسفية، وخلخل اليقينيات السائدة، وأحدث ارتجاجا في الفكر الغربي الذي كان يعيش عصر التنوير؛ فاستجدّ النقاش بشأن مباحث ''الألوهية'' و''الوجود'' و''الشر'' بين الفلاسفة والمفكّرين وعلماء اللاهوت. وكتب الكاتب الفرنسي، فولتير، قصيدته ''فاجعة لشبونـة''، التي انتقد فيها حسَّ التفاؤل الذي طغى على عدد من مفكري أوروبا وفلاسفتها، خصوصا الألماني غوتفريد لايْبْنِتْس الذي اعتبر، في كتابه ''مذهب الذرات الروحية''، أن العالمَ الذي يحيا فيه الإنسان يبقى ''أفضلَ العوالم الممكنة''. ووصل تأثّر 'فولتير بزلزال لشبونة إلى درجة أنه شكّل إحدى الخلفيات الرئيسة لروايته ''كونْديد'' Candide (1759)، والتي اندرجت في سياق ردّ غير مباشر على لايْبْنِتْس، فقد رأى فولتير أنه من المعيب الحديث عن العالم باعتباره ''أفضل العوالم الممكنة'' أمام هوْل المآسي والمظالم التي تملؤه، وتحيل حياة البشر إلى جحيم، وفي مقدمتها الزلازل والفيضانات والحروب والمجاعات والأوبئة وغيرها.
هل تستجدّ القضايا والأسئلة التي طُرحت بعد زلزال لشبونة، وكان لها أثرها في التقاطب الفكري والفلسفي بشأن ''معضلة الشر'' في ذلك العصر، مع ما خلّفه زلزال تركيا وسورية من مآسٍ؟ من الصعب الإجابة في ضوء التحولات التي شهدتها إشكالية العلاقة بين الدين والعلم، وإشكالات أخرى ذات صلة، طوال القرنين المنصرمين. لكن في الوسع القول إن اتساع رقعة الغضب في تركيا من عدم احترام معايير البناء، في بلدٍ تمتدّ مساحات شاسعة منه فوق ما يُعرف، في علم الزلازل، بـ ''صدع شرق الأناضول''، يعيد إلى الواجهة، وإن بشكلٍ مختلف عما كان عليه في العصور الوسطى، مسؤوليةَ الإنسان في رفع الكلفة البشرية والاقتصادية للزلازل، وتوسيع رقعة الأضرار التي تتسبّب بها. هذه المسؤوليةُ موصولة، حسب تقارير تركية، برداءة المواد المستعملة في البناء من إسمنت وخرسانة وغيرهما، وتدنّي المستوى العلمي والمهني للمهندسين، وجشع المنعشين العقاريين، والتساهل في تطبيق التشريعات ذات الصلة.
لا تكمن مسؤولية ضحايا زلزال تركيا وسورية في تخليهم عن الحياة الطبيعية والبسيطة وتفضيلهم الإقامة في المدن والحواضر المزدحمة، كما ذهب إلى ذلك جان جاك روسّو في نقده فولتير على خلفية قصيدته سالفة الذكر، بقدر ما تكمن في الفساد الذي ينخُر قطاع البناء والتعمير في البلدين. وقد يكون فتح الحكومة التركية تحقيقاتٍ، في شبهات فساد رافقت بناء مبانٍ انهارت بسرعة جرّاء الزلزال، إقرارا بهذه المسؤولية وفق ما يصوغه الإنسان المعاصر من تمثّلات بشأن الزلازل وتداعياتها.
لا يزال التنبّؤ بحدوث الزلازل أمرا مستبعدا، على الأقل في المنظور القريب. بيد أن التقيد بمعايير صارمة في البناء، واعتماد أنظمة مقاومةٍ ناجعة لها، وإنشاء معاهد لأبحاث الزلازل، واعتماد أساليب متطوّرة في إغاثة المنكوبين، من شأن ذلك كله أن يساعد هذا الإنسان على الخروج بأقل الأضرار من معركةٍ تبقى مفتوحة مع الطبيعة.